اليوم في زمن تحقيق العلوم و النصوص والثورات الشعبية ضد كبار اللصوص ، لا يزال المرء يتفاجأ ويذهل من استمرار بعض التيارات الدينية في محاربة العقل والمنطق والاجتهادات الحديثة بل وفرض توصياتها على أتباعها – بحسن نية طبعا – بتشرب هذه المحاربة ومجانبة أصحاب التحقيق وعدم السمع والطاعة إلا لها – والحكومات المستبدة أيضا – أو الشك ولو لبرهة في منهجها المقدس !!
تحاورهم بكل هدوء : هل أغلقتم باب الاجتهاد في الدين واعتبرتموه منتهيا ؟ يجيبونك دون تردد : لا وألف لا لإغلاق باب الاجتهاد . طيب إذن لماذا تحاربون أصحاب الاجتهادات لمجرد أنكم تخالفون آراءهم التي بنوها على أدلة قرآنية ومنطقية ؟؟ سيقولون لك لأنهم خالفوا ما ورثه الآباء والأجداد من آراء واجتهادات وأتوا بما لم يأت به الأوائل !! وكأن التفكير والاستنباط قد ولى وانتهى وصار من الزوائل !! تسبر كلامهم وتعرضه على هذا التراث المقدس النقي والخالي تماما من الأمراض الفكرية والمؤامرات السياسية والأخطأء البشرية فتجده يحتوي أيضا على ما يرفضونه فإن واجهتهم به قالوا : هذا تراث من ليس من ملتنا إن هذا إلا اختلاق !!
إذن فحجة التراث المقدس هي مجرد ” مخدر فكري ” يلجؤون إليه متى ما شاؤوا ويرفضونه أيضا متى ما تورطوا ، وجعلوه طوقا لا يجوز للاجتهاد أن يتخطاه أبدا رغم كونه ” صنيعة بشرية ” إلا أنهم جعلوه سلاح ” قنبلة ذرية ” حتى يحترس المفكر من أدنى خلاف معهم بسبب هذا السلاح وأخلاقهم النبيلة مع المخالفين !! والغريب أن هذا الاجتهاد الذي ” خنقوه ” بالتراث تراهم يستخدمونه دون سند تراثي في كل ما من شأنه حماية ” الِإمام ” وكم أساءوا استخدامه في ما يقدم الشعوب إلى ” الأَمام ” …
أيها السادة … أصحاب الاجتهاد والوسادة ، إن تراثكم يؤخذ من قوله ويترك ولا يختلف عن نهج العلمانية ولا الإخوان المسلمين ولا السلفية ولا الجمعيات الليبرالية ولا النزعات الاستقلالية وغيرها من نتاجات بشرية … الدين واحد ولكن نظرة البشر له مختلفة متمايزة ، والله قد عصم كتابه لكنه لم يعصم قراء كتابه وفهمهم له ، وما التراث الذي تدعون قدسيته – سواء تراث ملتكم أو التراث الإسلامي عموما – سوى نتاج تلك الاختلافات والتمايز والحاجة إلى فهم الدين ، وكما أن جلالة تراثكم الموقر قد تضمن ” سير أعلام النبلاء ” و ” أسد الغابة ” و ” رياض الصالحين ” و ” الأذكياء ” فإنه قد تضمن أيضا ” الضعفاء والمتروكين ” و ” المدلسين ” و ” تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ” و ” البخلاء ” ، فخذوا منه ودعوا ولا تحجروا حقا ولا فهما ولا تضيقوا واسعا ، وإياكم والعصمة لما ليس بمعصوم ولا مقدس .
ثم إن من أحد تلك الأدوات التراثية التي يضيق بها على الاجتهاد – يلاحظ استخدامها بكثرة مفرطة في العصر الحديث – ويوجبون على العقل التوقف عن التفكير والنظر هي أداة الإجماع ، ويقصد بالإجماع هو : اتفاق علماء المسلمين فردا فردا – زنقة زنقة – على حكم شرعي دون شذوذ من أي أحد منهم !! والمتأمل في التعريف يجده صورة عسيرة الوقوع ليس لها صور إلا تلك المعلومة بالدين بالضرورة كالصلوات الخمس وحرمة الخمر ونحو ذلك من البديهيات الإسلامية ، ماذا صنعوا بهذه الأداة ؟؟ جعلوها حجة تحرم مخالفتها بل يكفر المخالف – ولو أتى بصريح القرآن والسنة وصريح الأدلة العقلية و المنطقية بل وآراء من يقدسونهم لرفضوها بحجة الإجماع ذلك البعبع الذي صنعوه فخافوا منه ومن التأكد من حقيقته – وصار مع المدة الإجماع بنظرهم هو اتفاق ” خمطة ” من أشخاص معينين لها شروطها الخاصة بهم لا يهم إن خالفهم بقية المسلمين أو الطوائف الإسلامية ، ثم يشهرون سلاح ” إجماع المسلمين قاطبة ” في وجه مخالفيهم من المسلمين !! ويا ويلك ياللي تعادينا يا ويلك ويل !! وما الإجماع إلا أحد الأمثلة للاستغلال الضيق المتطرف للتراث واستخدامه في محاربة الاجتهاد ، وفي التراث نفسه ما يبطل هذا الوهم وما يغني عنه ..
على فكرة : الاجتهاد وإعمال العقل والتفكير والتأمل ورفض التقليد أدوات قرآنية وتراثية نيرة لكنها حجبت بتطرف لا يرى إلا نفسه فشوه التراث الإسلامي بدعوى الجمود على التراث و ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) متناسين ومقرين أنه قد جاء على الآباء عصر الجمود والتقليد والظلام الفكري والعلمي فهل سبروا ما وجدوا عليه آباءهم أصلا وتأكدوا من سلامته من أعراض هذا الفترة المظلمة ؟؟
ليت شعري لماذا ذكر الله – سبحانه وتعالى – لنا أصحاب الضلال قائلا : ( وقالوا لو كنا ” نسمع ” أو ” نعقل ” ما كنا في أصحاب السعير ، فاعترفوا ” بذنبهم ” … ) !!
تويتر : @MohammadFodery
أضف تعليق