عندما تنشر للمرة الأولى في حياتك (على حد تعبير الوشيحي وهو صادق)، وترى تفاعلا بل عطراً يعبق بحروفك فتصير “صفراء كعرجون القمر”، فإنك تقف أمام شطر حقيقة تلحق مقولة “أعذب الشعر أكذبه” بشطرها المفقود أن أعذب النثر أصدقه .. وأكثره تحسساً لبطون الجائعين، وتأوه المجروحين، وشحوب البائسين، وانكسار الأطفال المحرومين، ودموع الكهول الخائفين، بل انفلات المقهورين، وثوران الغاضبين على كل ظالم، جاثم بقبحه على الصدور والأحلام والحياة كلها.. فألحقوا العجز بالصدر ينهض بيتاً كاملاً سوياً.
وعندما تنشر ويمهد لك هذا الفضاء الذي لا يسبر غوره إلا الله رجل بقامة الوشيحي، ويتعقبك خشية أن تسقط آخر بهامة محمد الرطيان وفخامته، فتأكد أنك تحلق في فضاء لا جاذبية فيه من أحد، ولا انجذاب فيه لأحد، إلا لمثل هذين الجميلين بالفعل والقول والقلم، ولا يمكنني أن أذكر محمد ومحمد إلا ويقتحم ذهني رجل ثالث أقام لهما يوماً ما يشبه محاكم التفتيش وهو الفذ تركي الدخيل ولمن لا يعرف من هو هذا الدخيل على ذهني فإني أعرف أنه مقدم نادر الطراز، وكاتب إقليمي، وإعلامي … مبدع عند قوم وعند آخرين مبتدع، حمل يوماً بأيدي السلف، فصار حاملاً لشنطة الخلف، وهكذا أنت تكون .. موقعك من الأعراب -بفتح الهمزة- بحسب موقعك من قلوبهم.
كتب “مذكرات سمين سابق” ليكشف لنا جانبه المهزول* بالحرف والصورة !!، وحصل على جائزة سيد الحوار- مانح الجائزة يعتقد أن الحوار عبد-، ثم أسس موقع جسد الثقافة بعد أن صارت روحها في حواصل طير خضر تغرد بعيداً وجسدها عند فيفي عبده، تريدون أكثر كان يكتب في زاوية تحت عنوان “من ثقب الباب” – يتلصص يعني- فلما شعر بالذنب صار يكتب تحت عنوان “غفر الله له” وهكذا نحن – كلنا أو جلنا – نبتدئ حياتنا بخطيئة فنتوب بعد أن نشبع.
هذا المجتهد الفذ عندما تابعت برنامجه المسمى “اضاءات” ظننته سيسلط ضوءه ونوءه على كل مبدع مغمور مطمور (بالسيقان) والأيدي، فالاسم يشعرك أنه موجه نحو الذين يخبطون في الظلام والأحلام، ولكنه في كل مرّاته يستضيف نجماً مضيئاً بذاته، ومرات قليلة – لملء فراغه وفراغنا- يستضيف بهلوانياً مضيء ببطارية ليعلمنا الطبخ، أو بهلوانيةً تعلمنا أصول الاضطجاع على الآخر.
وهؤلاء النجوم المستضافون بعضاً منهم مثل الثريا ” اليا جت من عشا.. مطب دلوٍ من رشا.. فهو أول يوم من الربيع” كما قال الخلاوي، وبعضاً آخر مثل سهيل يقود السحاب خلفه بخطام حتى “يتروض”، ثم يشير إليه هاء وهاء على الآكام والركام وبطون الأودية والأخبية، وبعضهم نجم تراه بالعين المجردة “فيُجهرك” “كذنب الدجاجة” أكثر النجوم حضوراً وأقلها نفعاً، أو “كنجم الضفدع” مضيء أكثر من الشمس ولكنه كلما تقدم به العمر خفت ضوءه وانتفخ أكثر، هؤلاء خمسة وسادسهم كلبهم -أعني النجم- المتخصص في الإشكاليات والتقوقع…
والضوء لا يسطع ولا ينفع إلا على جسم مظلم، وعندما يسلط الضوء على ما هو أكثر إضاءة منه فالمحصلة صفر، وعندما يستضاف الأديب المبدع ثم يحاكم بأسئلة منطقية.. نحو لماذا المقال الفلاني يناقض المقال الفلاني؟ أو أنت قلت كذا وكذا فلماذا قلته؟” وماذا تقصد به؟ وهل تعتقد أن قولك صحيح؟ برهن ذلك؟.. فهو حوار فاشل لأن “السعدين” لا يلتقيان فالمنطق والإبداع مثل فارسين شهمين يتواجهان في معركة فينزل كل منهما ليصافح الأخر ويغادران بدون طعان ولا لعان.
والمبدع إذا برر إبداعه فسد، والإبداع الفاسد كالرطبة الفاسدة تسقط عــن العذق فوراً، وإذا حمل المبدع هم التبرير فليذهب إلى أهله (أهل التبرير والتزوير أحيانا) ويذبح شاة الحلف معهم، ليصير منهم فإن ابن أخت القوم منهم، ومولى القوم منهم.
*المهزول : الرقيق
أضف تعليق