في رحلة خاطفة نهاية الاسبوع الفائت إلى الكويت، كنت و مجموعة من الزملاء نناقش إدعاء بعض الكويتيين أن المجتمع الكويتي لم يعرف الطائفية، وقد سلمت بهذا القول مستثنيا مسألة النسب والمصاهرة، من باب “أنا معكم فلتبتعد النار عن بيتي” كما يقال، فما كان من أحد الزملاء إلا أن انتفض نافيا ما اشرت إليه، بقوله إن أبناء القبائل متزوجون من نساء من الطائفة الأخرى.
مع العلم أن تلك المصاهرات التي تحدث عنها زميلي, لم تكن نتيجة ظروف طبيعية استلهمت روح المواطنة، لكنها صدى لماض ٍجميل كان الكل فيه منشغلا بمتطلبات حياته اليومية دون الالتفات إلى ما يعكرصفوها. فالنوخذة كان سنيا والبحارة من المذهبين، وحتى في الكويت الحديثة كان الكل يعيش يومه ولا يلتفت إلى اختلافات أو خلافات مضى عليها قرون .
فالكويت كجزء من هذه المنطقة المتوترة منذ أمد بعيد، لم تشهد حراكا سياسيا طائفيا قبل الثورة في ايران والحرب العراقية الايرانية وما تبعها من تحفيز لبوادر الانقسام في المجتمع الكويتي، رغم أن ذلك لا ينفي وجود خلاف مذهبي في الكويت تاريخيا، لكن حالة الاستقطاب السياسي والتبني العقائدي له أتت نتيجة ظروف سياسية وعقائدية مستجدة.
وبناء عليه تراجع الخيار الوطني في مقابل الخيار الديني وتحديدا الطائفي، ومع صعود الصحوة الدينية بداية الثمانينيات برزت مظاهر دينية لافتة، فكانت اللحية هي أول ما يميز الكويتي إن كان شيعيا أو سنيا، فترى إن الاخوان او السلف مطلقي اللحى مع حف الشوارب والشيعة بلحية خفيفة، ومنها أيضا اعتماد عبارات الاستحسان “كجزاك الله خيرا” أو “اأحسنت وجعلها الله في ميزان اعمال حسناتك” .. ناهيك عن تحول السيارات إلى مشهد يدل على انتماء أصحابها، فقد لا يوحي المظهر الديني وحده بأن صاحب المركبة ملتزم دينيا، لكنه يقود إلى لوحة ارشادية على انتمائه، وبذلك تحولت الشعارات الدينية الجامعة تكريسا لحال التفرد ومسلكا للتفرقة بين مكونات المجتمع الكويتي.
هذه الحال تمددت واتسعت وأرخت ظلالها على كل مظاهر المجتمع في الكويت، رافقها فائض من الرغبة في تمايز كل طرف عن الاخر، وأضافت معها عناصر جديدة أسهمت في تعميق الازمة الاجتماعية، فظهرت بموازاتها مسيمات دينية لمقاصد حياتية عادية، كمطعم “كباب الحجة” .. و”مصبغة الكوثر” .. و”تسجيلات الثقلين” .. إلخ، ورغم عدم الاعتراض على رمزية المسميات وقيمة معانيها ودلالاتها وما يدعو أصحابها إلى انتقائها وتفضيلها على مسميات أخرى، لا تدل إلا على نفسها، نجد أنها اختيرت بعناية لتؤثر في وجدان الزبائن، وتفرض عليهم اختيار المكان وفقا لانتماءاتهم، كذلك عكست حاجة بعض أطراف المجتمع إلى مذهبة الحياة اليومية ومتطلباتها.
واليوم بعد تعزيز هذا الانقسام، وتعمق رغبة التمايز لدى جمهور الفريقين، خرجت محاولات التفرد من الشعارات المذهبية الخاصة لتطال العناوين الدينية العامة، وصارت تستخدم المسميات الدينية الجامعة كتحد للطرف الاخر، فظهر “سنيا”اسم مبرة “الآل والاصحاب”.. ردا على مبرة أهل البيت الشيعية. وتحول “مركز وذكر” بسبب موقعه وسط منطقة تسكنها أغلبية شيعية وطرحه لمواقف رآها البعض أنها تعزف علي الوتر الطائفي إلى “مركز وكفّر” -حسب رأيهم – وأنا في غنى عن ذكر الحوادث التي نتجت عن هذه المسألة بالذات.
يبدو أن الحالة الطائفية في الكويت استكملت بناء اركانها على مدى سنوات طويلة، حتى بلغنا اليوم مرحلة استعار الحرب بين الطرفين، وبلغت أوجها وسط حرب المساجد المشتعلة بين المذهبين وأبنائهما من صغار السن، ووصلت إلى حال الارتباك المجتمعي التي لا نعلم الى أين ستقودنا، فالمجتمع بطبيعته مركب من قادمين من شبه الجزيرة العربية ومن العراق وايران وحتى بلاد الشام وهو ما كان مصدر ثراء في سالف الازمان لكن تلك الميزة تحولت إلى سبب لرفض الآخر سنيا كان أم شيعيا حضريا أم بدويا عربيا أم اعجميا .
وهو ما اتضح جليا في الصراع الاخير بين أشاوس نواب الامة في المجلس.
وبعد أن كانت صور العراك تحت قبة البرلمان قد أثارت كوامن الخوف في نفسي على الكويت، عادت صور العناق والقبل بين النواب لتستفزني وتدفعني إلى توجيه سؤال لنواب الامة : أيها السادة لقد تصالحتم فمن يطفئ النار التي أشعلتم ؟
أضف تعليق