نجم الفضاء التلفزيوني.. صاحب الجملة الملونة “البيت الأبيض يعيش في المنطقة الرمادية”.. الإعلامي علي الظفيري ينضم إلى كوكبة كتاب ((سبر)).
وطن بـ لا شروط !
كان لقاءً عابرا ومؤثرا , إنه شاب في منتصف الثلاثينات , بلا هوية ولا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء دائمين , كما لا تستطيع التنبؤ بعنوانه في الأسابيع القادمة , فالشقة التي يستأجرها بلا عقد محدد , يمكن للمالك أن يقرر “عشرة دنانير” زيادة في الإيجار الشهري من أجل قسط سيارة ابنه الجديدة , فيضطر صاحبنا للبحث عن سكن آخر , وقد لا يجد !.
سألته ماذا تعمل ؟
أحرس هذا المطعم الكبير , فالناس هنا بالمئات , يأتون وأولادهم بشكل يومي , وطلبات الطعام لا تتوقف أبدا , يحتاج الأولاد في الساحة المليئة بالألعاب لحماية , الأزواج الجدد وأولئك الذين يجددون علاقاتهم بحاجة لتأمين أيضا , الأرباح الكبيرة التي يحققها هذا المطعم وعشرات العمال الرسميون من مختلف الجنسيات والديكورات الثمينة يستظلون بظله أيضا , فكيف لـ أحمد أن يفعل كل هذا !
لا يجزم أحمد أنه يعمل في هذا المكان , ولا يستطيع الاطمئنان تماما لهذا الفكرة , عقود العمل الشفوية ينهيها مزاج معكر في لحظات , وعليك هنا أن تراعي مزاج صاحب المكان , ومديره , وزبون مختل العاطفة تحتاج ذاته الحقيرة أن تنتشي دائما بوجود من هو أقل منه , ولا يتحقق لها ذلك غالبا , وأمزجة أخرى كثيرة لا تستحق الذكر !.
يسأل عن أخبار الثورات العربية !
وهل تتابع الأخبار يا أحمد ؟ هل تجد الوقت الكافي لهذا ؟
ومن لا يفعل يا سيدي !, إن نبتة تائهة مثلي بلا أرض تبحث عن التغيير , وشاب “بدون” كحالتي لا ينتظر أن تحل قضيته على يد عنصريّ عفن يسكن في هواجسه التي لا تنتهي , أو على يد انتهازي أجوف حلمه أن يكون في قاعة عبدالله السالم , لا لـ يرى أحمد السعدون مثلا وينهل من عظمته قليلا , بل ليكون قريبا من الجالسين في الجانب الأيمن من الصف الأول!, إن من هو مثلي أيها الصحفي لا يحتاج إلى مساعدة شهرية ورخصة قيادة نظامية ومحكمة تقبل الاعتراف بزواجه كـ بشر, بل يحتاج إلى تربة جديدة , يحتاج إلى وطن!.
هكذا تحدث أحمد ..
لما أطلق الشاب التونسي محمد البوعزيزي شعلة التغيير في العالم العربي , لم يكن ذلك من أجل لقمة العيش , عشرات ملايين الفقراء في هذا العالم لم يحرقوا أنفسهم أبدا رغم حاجتهم الشديدة , بل إنهم الأكثر قدرة على التعايش مع الواقع والتكيف معه , كثير من فقراء مصر وتونس واليمن وسوريا – ممن يسعون فقط للقمة العيش – كانوا في الجانب الآخر , وكانت الثورة تخيفهم وتقض مضجعهم , آمنوا أن الأرزاق تسقط كل صباح بالدعاء فقط , وهذا صحيح , لولا أن سلطة مستبدة تقطع الطريق بين الناس وأرزاقهم , أما الثورة ضد كل هذا فأطلقها الشباب الذين احتشدوا في ساحة التحرير وهم من الطبقة المتوسطة , لديهم حسابات فيس بوك ووظائف ومال يكفي للتسكع في المقاهي , يتحدثون اللغة الانجليزية بطلاقة ويعملون في الشركات الكبرى , لكن لديهم أحلام كبيرة أيضا لا يتسع لها سوى قلب وطن حقيقي , وطن عادل صادق يتنفسون فيه الهواء بـ حرية !.
عاش الروائي الكبير عبدالرحمن منيف منفيا طوال حياته , ومات على هذه الحال , كان بلا وطن , لكنه زرع في أرواحنا أوطانا لا تموت , وأوطانا بلا شروط , يقول : إن وطن الإنسان حيث يكون قويا ومؤثرا قادرا , الوطن ليس التراب أو المكان الذي يولد فيه الإنسان
وإنما المكان الذي يستطيع فيه أن يتحرك !, وقد ضاق الوطن العربي على اتساعه بهؤلاء الشباب , هامش الحركة معدوم , مسموح لك أن تذهب للحصول على رغيف الخبز , لكن بـ صمت ! وأن تنظر للأسفل دائما .
المواطنة تعريفا هي شكل من أشكال العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع يترتب عليها مجموعة من الحقوق والواجبات ، وترجمة هذا أن كافة المنتسبين للوطن متساوون دون تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري , وهذا ما لا تجده تحديدا في الدولة العربية من المحيط إلى الخليج , وهو بالضبط ما يدفع العربي للثورة في بعض البلدان , والترقب بانتظار النتائج في بلدان أخرى , يريد هؤلاء أوطانا يتساوون فيها , يريدون أوطانا حقيقية , لا أوطانا بالأسبقية أو بالتبعية أو بالقرابة أو بدرجة الفهلوة التي يمتلكها الفرد , أو بقدرته على الاستجداء بـ وقاحة في عموده اليومي !.
إننا يا أحمد يا صديقي نملك بطاقة شخصية , وعقد زواج ممهور بختم المحكمة الوطنية , ورخصة قيادة سارية المفعول , وجواز سفر , ووظيفة شبه دائمة , وراتب , وأولاد , ورقم انتظار في الطابور السكني , واعتراف دولي , وملف صغير في جهاز المباحث , لكننا مثلك بالضبط , نبحث عن وطن , وطن أخضر حقيقي يجمعنا , وننام على كتفه بلا وجل , نحضنه ساعة , ويطير بنا ساعات ..
إننا يا احمد يا حبيبي , نحنّ لتراب جديد مثلك , يرفض الانتهازيين والمتسلقين وأشباه الصحفيين , يبصق في وجه القنوات المسعورة , ويعلق رقاب مقدميها المصابين بلوثة عقلية على مقاصل السخرية , وطن أبيّ منيع , يقوده العقلاء لا الجهلة , وطن يجمع ولا يفرق , ولا يلجأ للفتنة عند أول مفترق يواجهه!.
وحتى ذلك الحين يا أيها الأحمد النبيل , ردد معي ..
قبر أمك وطن ..
مدرستك الابتدائية ..
الشوارع الخلفية ..
وجه طفلك في الصباح ..
دموعك في المساء ..
الكلمات الطيبة من صديق نبيل
مسجد الطين – بلا لوحة – تحمل اسم المتبرع وجده السادس
فقرك حسب مقاييس الصندوق الدولي
وغناك حسب المقاييس الإنسانية
الطريق الذي يأخذك إلى أحبابك
شبه السيارة التي كانت تقلك إلى الجامعة
كتابك في وجه دولة الجهل والأغنياء الأغبياء المترفين
أحلامك من عهد الطفولة في ظرف رخيص
قلبك يسكنه الغرباء في كل مدينة تشد إليها الرحال
صوت أبيك يلهث بالدعاء حتى وهو يموت
جدران منزلك المستأجر وإن لم تكن ملكك ..
هذه الأشياء جميعها أوطانك الخاصة , عالمك الذي لا يستلزم أوراقا ثبوتية تقدم بالرشوة أو بالتزييف , روحك التي لا يملك كائنا من كان انتزاعها منك , حريتك المطلقة بلا قيود السلطة المقيتة , جدلك الخاص بعيدا عن الجهل المتفشي في الشبكات الاجتماعية , معيارك الذي لا تدركه صحفية بائسة تتوهم في نفسها شيئا عظيما , سرّك الذي تبوح به كل مساء ويعينك على احتمال هذا الكون يوما إضافيا , عَـلَمك الوطني الخاص , جيشك الذي تستعين به في مواجهة الأعداء من قريب ومن بعيد !, ومنبرك , لا يزاحمك فيه أحد .
قل هذا يا أحمد وردده عشرات المرات كل مساء , حتى يحين موسم الوطن !.
علي الظفيري / كاتب وصحفي
@alialdafiri
أضف تعليق