يتابع المرء ملفات وشؤون عربية كثيرة, من باب الاهتمام الشخصي وبحكم طبيعة العمل الصحفية, ويمكن الجزم هنا بأن عملية التحول الديمقراطي التي تعيشها المنطقة العربية تقابلها كثير من العقبات, بعضها له علاقة بطبيعة المجتمع العربي وتكوينه, وأخرى مرتبطة ببنية السلطة في العالم العربي والنابعة من تكوين المجتمع, إضافة لعقبات ترتبط بتأثير القوى الغربية المتحالفة مع الاستبداد العربي بأشكاله المختلفة – الملكية والأميرية والجمهورية والجماهيرية – على أساس أن ما فعله القذافي يمكن تصنيفه كـ نظام حكم!, وأكثر ما يلفت الانتباه هذه الأيام كم التحديات التي تواجه القبيلة في المجتمعات العربية, يمكن رصد هذه التحديات في بلدين هما الكويت واليمن, إضافة لما يجري في ليبيا والحضور الطاغي للقبيلة بعد اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير.
سأبدأ من الكويت أولا, فقد شكل “محمد الجويهل” عنوانا لمرحلة سيتحدث عنها المؤرخون طويلا في حديثهم عن التجربة الديمقراطية في الكويت, والجويهل – لمن لا يعرفه – ناشط ومرشح سابق للانتخابات البرلمانية شن حملة غير مسبوقة وغير أخلاقية على أبناء القبائل هناك , وكان ذلك تحت حجة ازدواجية الجنسية واستيطانهم البلاد بعد غيرهم من الفئات الأخرى, والحجتان غير دقيقتين أبدا ولسنا بصدد نقاشهما, لكن الجويهل حصل على الدعم الحكومي الكامل في حملته الشعواء على القبيلة في الكويت, كل المنابر الإعلامية كانت تقدم خدماتها للرجل وتتيح له تنفيذ الأجندة الرسمية في محاولة تقزيم أبناء القبائل وكسر شوكتهم!.
استهدفت الحملة بشكل رئيسي قبيلة مطير في الكويت, وبشكل ثانوي قبائل أخرى كالعجمان وغيرهم, وبدأ التوجه بشكل – لا أخلاقي – ولا متحضر ولا إنساني ولا يليق بمجتمع متمدن تتفرغ منابره الإعلامية المتنفذة لتقديم أصوات من غير المقبول الاستماع لها في مجلس لا يتعدى زواره خمسة أشخاص, فما بالكم بالتلفزيون!, ومن الواضح تماما أن هذه الحملة الممنهجة تعمل بغرض رئيسي وهدف محدد يتمثل بإيقاف المد الوطني داخل أبناء القبائل ودق الأسافين في مكونات المجتمع لإشغاله عن إتمام عملية التحول الديمقراطي, فقد شكلت مخرجات الانتخابات في المناطق ذات الكثافة القبلية مفاجئة للسلطة السياسية هناك, وبعد أن كان التيار الوطني يحظى بالقبول في المناطق الداخلية وفي المجتمع الحضري على وجه الخصوص, تنامت ظاهرة الوطنيين في المناطق الخارجية وشكلت قبيلة مطير مخزنا وطنيا للنواب في البرلمان, صحيح أن آليات غير مقبولة على صعيد العمل الوطني الجامع البعيد عن الفئوية شكلت طريق عبور لبعض أولئك النواب مثل الانتخابات الفرعية بين أبناء القبيلة الواحدة, إلا أن هماً وطنيا وعناوين وبرامج عامة استطاع الناخبون فرضها على مخرجات تلك الانتخابات, مما دعا لمواجهة معلنة بين السلطة والقبيلة, فقد اعتادت السلطة على النواب ” البصّامين” الانتهازيين من أصحاب الخدمات البسيطة للمواطنين, والخدمات الثقيلة للأشقاء والأبناء والمحيطين بهم, وحظوظ هؤلاء – رغم كثرتهم- تتراجع بشكل واضح بين شباب القبائل, لا أحد يمكنه إنكار رمزية نواب مثل مسلم البراك ووليد الجري ومحمد الخليفة وقبلهم أحمد الشريعان وسعد طامي بين هؤلاء الشباب, لا أحمد يمكنه إنكار أن القبيلة تسعى لتعويض غيابها عن المشهد الوطني طوال عقود واستغلالها من قبل السلطة السياسية لضرب التيار الوطني الحضري على وجه الخصوص, لكن الدولة تقف بالمرصاد لهذا الأمر, وتسعى بشكل حثيث لإيقاف عجلة التحول وتجميد القبيلة عند نقطة الولاءات والتعاون على إبقاء التسوية لصالح النظام, مع شيء من الهبات يتم توزيعه هنا وهناك لفريق المتعاونين, كل حسب حجمه وتنازلاته!.
في اليمن مشهد مماثل, حكم علي عبدالله صالح البلاد عقودا من الزمن, وكان جانب من شرعيته يتكأ على التركيبة القبلية هناك, فهو من ناحية يحصد بعض شرعيته منها, ومن جانب آخر يحكم أبداً ومطلقاً بحجة أن القبائل ستتقاتل من بعده بما يودي لتفتيت البلاد, وفجأة نكتشف أن قبيلة جديدة اسمها “علي عبدالله صالح” تحكم البلاد وتتصارع مع الجميع بلا استثناء, فـ صادق الأحمر شيخ مشائخ حاشد أكبر قبيلة يمنية يعلن صراحة دعمه للثورة السلمية ويتعهد بعدم القفز على كرسي السلطة هناك, وفي تعز يحمي رجال القبائل الثوارَ المعتصمين في الميدان, وبصورة غير متوقعة بناء على الترويج المسبق تقف القبائل جميعها وقفة مدنية متحضرة داعمة للتحول السلمي في السلطة, ويقف النظام السياسي ومن يدعمه وأمريكا في صف التحريض على الاقتتال الأهلي بحجة أنه القادم لا محالة!!.
إن القبيلة اليوم , سواء في اليمن أو في الكويت أو في ليبيا , ليست حجر عثرة أمام عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة, وهي وإن كانت في بنيتها أو علاقاتها الوشائجية كما يصف ابن خلدون تتناقض إلى حد كبير مع فكرة الدولة , لكن هذا الأمر لا ينطبق على القبيلة التي نراها اليوم , وأقصد هنا القبيلة الحديثة التي استوطن أبناءها المدن وخضعوا للقوانين والتنظيمات الجديدة, كما أن عملا دؤوبا تقع مسؤوليته على الدولة وعلى النخبة من المجتمع, يفترض به اتمام عملية التحديث هذه بما يتواءم وفكرة دولة المواطنين التي لا تقوم على عرق أو دين أو مذهب أو انتماء جغرافي.
لكن ماذا يفعل الشباب “الوطني” من أبناء القبائل وهم يشاهدون “مهرجا” تلفزيونيا يشتم قبائلهم وأهاليهم ؟ هل يصمتون تجاه هذا العهر المتلفز ؟ هل ينشئون قناة تلفزيونية “قبلية” للرد والدفاع عن أنفسهم , هل يتقوقعون في عباءتهم القبلية ويرددون أهازيج خاصة بهم, ويحققون له ولمن يحركه ما يريد! هنا تقع الخطيئة الكبرى بين أبناء القبائل , وهنا ينتهي المشهد الأخير كما يريد كاتبه خلف الستار , والرد الأسلم هنا يكون بالمزيد من العمل الوطني والالتزام بالمواطنة كمفهوم نبيل وسامي يسعى له الأفراد والنخب في المجتمعات الحقيقية , والعمل بشكل جدي على جسر الهوة بين مكونات المجتمع وعدم الانسياق للدعوات المذهبية والعرقية الساعية لتفتيت بنية الشعوب حفاظا على مكتسباتها التي لا تتحقق إلا في ظل الفرقة والانقسام , الحل في دولة المواطنين , لا دولة القبائل والأفخاذ والمذاهب والمناطق.
ولمن يشعر بالمرارة , عليه أن يتذكر نفسه وقبيلته جيدا, ويثق بها, وبطنه قبل كل شيء, ويردد البيت التالي الذي يليق بمكانته الحقيقية, بعيدا عن التشويش المقصود ..
يا ناطح الجبل العالي لـ يَكْلمه ,, أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
أضف تعليق