كم بهلوان فى حياتنا إذن ؟
إبراهيم عيسى
هل حصل ورأيت بهلوانا ..أغلب الظن إن لم تكن قد رأيته فى السيرك فقد رأيته …آه رأيته فين ..؟ يجلس على مكتب امامك ..يحاضر على منصة …يدرس فى كلية يقود فى حزب ..يخطب فى مؤتمر .. يصرح فى تليفزيون ..يكتب فى جريدة ..أم يا ترى ياهل ترى رأيته فى المرآة ..انتبه قد تكون أنت هذا البهلوان ..وقد أكون أنا ..وربما نكون جميعا فى سيرك ..( حاسب ذراعك أحسن يأكلها أسد أو نمر ..حاول أن تخرج من القفص الآن ..خد بالك لا تخرج بظهرك فلا أحد يعلم ما الذى يمكن أن تفعله فينا الوحوش التى نضع أيدينا فى فكها، وبين أنيابها من أجل أكل العيش !!).
صحيح كم مرة ضبطت نفسك وأنت بهلوان فى شغلك، وأمام رئيسك، وتحت يد مديرك، وأمام الضابط فى القسم أو المرور، وبين يدى مدرسك، أو أستاذك فى الجامعة، أو مع زبون فى محل، أو كزبون مع صاحب محل؟.
كم مرة تضحك على نفسك، وعلى الناس؟. كم مرة نطيت الحبل أو مشيت على الحبل؟. كم مرة ارتديت قناعا؟. وكم مرة خشيت أن تخلعه؟ أو نسيت أن ترفعه؟ أو نسيت أنك ترتديه؟.
إذا كانت الحياة قد دفعتك إلى ارتداء القناع، فعلى الأقل حاول أحيانا أن تخلعه لا لتحرقه – لا سمح الله-، وتمشى من غير قناع بل فقط لتغسله، وتنظفه فالملاحظ هذه الأيام انتشار ظاهرة الأقنعة الوسخة، لابأس من الأقنعة بس على الأقل تبقى نظيفة، أو تظل قناعا بوجه واحد، إنما ليس معقولا أن معظم الناس ترتدى فى اليوم أكثر من قناع، وربما تلبس كل ساعة قناعا ..كفاية حرام!.
يذكرنى حديث البهلوانات والأقنعة برواية مسرحية مريرة، وموجعة كتبها سيد الكتابة العربية يوسف إدريس فى زمن طين وعجين تعرض فيه لحصار من السلطة، ورجالها وصحفييها ومسئوليها، فإذا به يقدم نصا مسرحيا رائعا فى شجاعته، وعميقا على فرط وضوحه، النص المسرحى حمل عنوان “البهلوان”، وهو منشور، ومتاح للجميع لكن مؤامرة من الصمت تحيط به، حيث يخشى عالم الصحاف،ة والسياسة، والسلطة من مواجهة نفسه فى مرآة صافية صادقة قد تنتهى به الى الفضيحة.
كتب يوسف ادريس فى نوبة من الشجاعة والوجع تصديرا للمسرحية قال فيه (أى تشابه بين شخصيات هذه المسرحية، وأحداثها وبين الواقع هو من قبيل الصدف المحضة، إذ أن واقعنا الحالى يفوق أى خيال).
تبدأ أحداث المسرحية التى كتبها يوسف ادريس عام 1983بسيرك يستقبل بهلوانا جديدا لإختباره، – وهو زعرب- ، الذى يثبت نجاحا فائقا فى إلإمتحان، ونفهم من شروط الأتفاق أنه لن يخلع قناعه طول ماهوه فى السيرك كما نعرف ان نظيم بك صاحب السيرك يرفض ان يراه أحد وسوف يتلقى الأوامر منه دون ان يتعرف عليه، أما مدير السيرك فيفاجئنا بسؤال زعرب البهلوان: ازاى واحد محترم زيك يا حسن بك رئيس تحرير قد الدنيا، ومشهور جدا( واشى اذاعة وتليفزيون وتعليقات وأحاديث ..راجل زى ده ..ايه يخليه يوطى نفسه ويشتغل بهلوان بالليل فى السيرك بتاعنا ده ؟) فيرد عليه رئيس التحرير حسن المهيلمى: عشان أتوازن.
ننتقل بعد ذلك الى مكتبه فى جريدة الزمن لنراه فى حالة عبث مع سكرتيرته كذلك يمليها مقالا افتتاحيا فى مهاجمة روسيا ثم يتلقى تعليمات جديدة بمهاجمة أمريكا فيبدل كلمة روسيا بأمريكا ويظل المقال هو نفسه، فى منزله نجد زوجته قلقة من حكاية خروجه كل ليلة على غير عادته فيقنعها أنه ذاهب الى الجريدة للطبعة الثالثة، وهو يشكو لها من متاعب منصبه فترد عليه قائلة: (مش دى الشغلانة اللى حفيت عشانها؟. مش الشغلانة اللى خلتك تمسح جوخ وبلاط لكل حكومة تيجى؟. مش دى اللى خلتك تنافق طوب الأرض علشان توصل لها ؟).
يتذمر حسن رئيس التحرير من كلامها، ويمضى الى السيرك مواصلا عمله الناجح والمبهر كبهلوان، لكن بعد فترة نكتشف أن منصبه كرئيس تحرير مهدد بالضياع، حيث تبدل رئيس مجلس الإدارة من المحلاوى بك الى الغرباوى بك، وكان حسن قد هاجم الغرباوى بعنف، وبخسة لصالح المحلاوى ، يظهر علاء أحد الصحفيين الدوغرى الشرفاء فى مكتب حسن ليعلمه بتولى الغرباوى رئاسة المؤسسة فيبدى حسن على الفور استعداده لخدمة الغرباوى، وأمام دهشة علاء يخبره رئيس التحرير : بقى شوف ياعلاء احنا هنا بنخدم مصر، كده و لا مش كده؟. وأى واحد تختاره مصر نحطه فوق راسنا، يردعليه علاء مشككا انه يخدم مصر فيرد رئيس التحرير حسن زعرب البهلوان: معاذ الله .. دا أنا بآموت فى الكرسى اللى انا قاعد عليه ده والله باموت فى الكرسى !! ده دمى بيتحرق وعندى سكر وجانى ضغط دم وكل ده ليه ؟ ….عشان مصر …، يردعليه علاء بمرارة وكأنه يقول ما نريد جميعا أن نتنيل نقوله : مصر مصر تحيا مصر ..كل حاجة مصر مصر ..اللى عملت مصر واللى سوت مصر ..حد شاف مصر دى؟. مين مصر دى؟. كل واحد يقول مصر عايزة، مصر عايزة، وكأن مصر مش موجودة قدام عينينا، وشايفنها عايزة حاجات تانية خالص!!.
وبينما يعيش حسن رئيس التحرير أزمة استبعاده المؤقت من منصبه فهو يواصل البهلوانية من اجل إرضاء الرئيس الجديد، والفوز بمنصبه من جديد في الوقت نفسه يمارس عمله كبهلوان في السيرك على أفضل ما يكون، ونسمعه يقول في لعبة المشي على الحبل أمام الجماهير:” ماتخفش يا واد .. ده احنا أساتذة في المشي على الحبل، ده الواحد مننا يتولد ماشي على الحبل، ويفضل ماشي عليه لغاية ما يموت وفي الآخرة برده بيمشى على الصراط المستقيم، والجدع يا واد هو اللى ما يوقعش وأنت جدع، اللى بيسوق ماشي على الحبل، واللي ماشي بيسوق على الحبل .. المسئول على الحبل والموظف متشعبط فيه رئيس التحرير على حتة دين حبل حبل إنما خازوق حبل، واقف إذا فضل عليه مخوزق، وإذا وقع يتخوزق أكتر. الكراسي عندنا حبال والبيوت حبال إذا سبت الحبل، ومشيت على الأرض يقولوا عليك جبان أكيل عيش وارزقي، وإذا انقطع بيك الحبل وانقطع عيشك يقولوا هو اللى غلطان مين اللى قال له يمشي على الحبل. أيها الحبل كم من الجرائم ترتكب باسمك ( فجأة ينطلق سائرا فوق الحبل عابرا إياه في براعة شديدة) “لعبة الحبل تفيده كثيرا.
بعدها يصل الى رئيس مجلس الإدارة الجديد الغرباوى ليعتذر له عن تهجمه السابق:” غصب عني يا غرباوي بك والله غصب عني ” فيرد عليه غرباوي:” حد بيكتب غصب عنه” فيرد حسن رئيس التحرير البهلوان “آه توجيهات أنا يا باشا عمري ما كتبت إلا بتوجيه هو أنا مجنون أكتب من غير توجيه ، أنا مؤمن إن فوق كل ذي علم عليم، والعليم أكتر يوجه العليم أقل” لكن الغرباوى الذى يأمره بمهاجمة رئيسه السابق المحلاوى بك يعود ليطرده من الجريدة بعدما كشفه للناس، ثم إذا بزوجته تكتشف أنه بهلوان فى سيرك فيبرر لها ما فعله “ويعترف حسن : عشان أتوازن طول النهار بشتغل جد جد وشغلنا كله كدب كدب ولازم أكذب وأنا جد .. أبقى جد جدا وأنا بكذب، استحملت في الأول كان فيه هدف قدامي أنى امسك الجرنال أبقى رئيسهم كلهم بالكذب بالذوق بالجد بالعافية بمهاودة كل واحد على عقله بسكك الجن الأزرق نفسه ميقدرش عليها وصلت وبقيت رئيس تحرير ولقيت نفسي مش قادر أواصل بقى، خلصت، كل الكذب اللي عندي خلص وكل النفاق اللى عندي خلص وكل الفهلوة والفبركة والضحك على الذقون خلص، قلت أبقى بهلوان علني وشغلوني فى السيرك ، أنا كان حاجة من الاثنين يا أفضل جد زي ما أنا و أتجنن يا أفضل جد زي ما أنا الصبح بس وبالليل اشتغل بهلوان ” المفاجأة التى تنتظر حسن أو زعرب البهلوان أن صاحب السيرك لم يكن سوى المحلاوى رئيسه القديم وقد تحولت ملكية السيرك إلى الغرباوى الرئيس الجديد الذى ينوى طرده كذلك من السيرك فيرد عليه حسن: عشان صاحب السيرك بقى صاحب جرنال عملنا كلنا بهلوانات، فيجيبه غرباوي: والله انتوا اللى علشان بهلوانات عملنا ليكم الجرنال سيرك، والسيرك جرنال!.
وبتفاصيل عديدة تنتهى مسرحية البهلوان ليوسف أدريس لكن المؤكد أن صاحب السيرك لا يزال هو نفسه، أما البهلوان رئيس التحرير فأكثر من الهم على القلب. وانظر حولك!!.
أضف تعليق