لماذا لا ينتحر هؤلاء المثقفون العرب والمصريون الذين أوجعوا بلدنا بالنفاق والكذب وكانوا ولازالوا السبب الأفدح والأوضح لركوب الظلمة الديكتاتوريون على أنفاس وصدور الناس، وكانوا جسرا ونفقا للاستعمار الذى احتل أرضنا وعقلنا كذلك، أظن وليس كل الظن إثما أن بلاء الأمة وعار الوطن هم مثقفوه الذين تزينوا كالغواني للسلطة ورقصوا كالراقصات للحكام طمعا فى النفوذ والفلوس، ولكن للأسف هؤلاء وأمثالهم لا ينتحرون أبدا فهم مع فقدان الضمير يفقدون ذرة الدم والكبرياء، أما الذين يحسون على دمهم، الذين يشفقون على وطنهم فهم الذين يؤثرون الموت انتحارا أو شهادة أو اعتقالا عن بيع الضمير، وقد كشف الكاتب العربى الكبير دكتور محمد جابر الأنصارى فى كتابه الساحر (انتحار المثقفين العرب) عن معانى غامضة وغموض له معنى فى ظاهرة الإنتحار الفكرى والجسدى للأديب والكاتب ولعل السباحة فى كتابه تبدأ بالمشهد المذهل القادم من اليابان فقد أندهش العالم وفي طليعته اليابان لمشهد انتحار الأديب الروائي الياباني يوكويو ميشيما يوم 25 نوفمبر 1970 عندما احتل هو وقلة من رفاقه مقر كلية الأركان العسكرية في قلب طوكيو واحتجزوا قائدها ثم صعد ميشيما إلي شرفة الكلية المطلة علي ساحة التدريب والقي كلمة عصبية لم تستغرق أكثر من عشر دقائق في الجنود الشباب المندهشين لحديثه دعاهم فيها إلي رفض خضوع اليابان لأمريكا والي تغيير دستورها (السلمي) الذي فرض عليها بعد الاحتلال الأمريكي عام 1945والعودة الي تقاليد اليابان العسكرية وقيمتها القومية التاريخية قبل أن ينجرف مجتمعها مع موجة التغريب والتأمرك في العقود الأخيرة وعلي الرغم من أن رد فعل الجنود كان أقرب إلي السخرية بل أن بعضهم أغرق في الضحك لعصبية ميشيما وغرابة أفكاره بمعيار الجيل الجديد في اليابان ولحركاته الدرامية المبالغ فيها علي الرغم من ذلك قرر ميشيما المضي قدما في عملية الانتحار فغرز سيفه عميقا في أمعائه وأخرج رأسه من جانب بطنه الأخر علي طريقة انتحار فرسان اليابان القدماء (الساموراي) المسماة (هارا ــ كيري) ثم قام أحد رفاقه بحز عنقه وفصل رأسه عن جسده… تخليصا له من العناء الدموي.
وقد أثار حدث انتحاره اهتماما واسعا في اليابان وفي الغرب واعتبره البعض دليلا وإن كان معزولا علي أن وراء الأكمة ما وراءها وأن الروح اليابانية المتحفزة للمواجهة مازالت تسري في الأعماق ولم يكن ميشيما بالأديب الصغير الفاشل حتى يمر انتحاره دون زوبعة فقد كان روائيا كبيرا ناجحا وكان قد فرغ لتوه من إرسال الجزء النهائي من قصته الأخيرة إلي المطبعة ثم أخذ يخطط لحادث الكلية العسكرية بشكل مدروس بعد أن اطمأن إلى سجل كلمته النهائية عن اليابان في تلك الرواية التي اسماها ( بحر الخصب ) غير انه رغم هذا البعد المبدئي لانتحار ميشيما من حيث هو إعلان صارخ عن قضية اليابان التقليدية التي جرفها التغريب والتأمرك فإن التحليلات والشواهد التي أخذت تتري عن سجل حياة ميشيما بأقلام دارسيه قد أخذت تؤشر أيضا إلي أبعاد شخصية هامة تداخلت في نسيج فاجعة انتحاره .
ومن اليابان الى المشهد العربى ، الى ساحة انتحار الأديب البنانى العروبى خليل حاوى ففي يونيو1982 عندما بدأ الجيش الإسرائيلي يزحف نحو بيروت فجع العالم العربي بالإضافة إلي فاجعة العدوان الأسرائيلي بنبأ انتحار الشاعر اللبناني الكبير خليل الحاوي وذلك بأن أطلق النار علي رأسه ـ جهة العين اليسري ـ رصاص بندقيته وهو داخل شقته الكائنة في رأس بيروت قرب الجامعة الأمريكية وكان طبيعيا أن يرتبط انتحار حاوي بالقضية العربية في مرحلتها المأساوية هذه حيث ( تعهرت ) حتى ( اللغة ) حسب تعبيره الأخير وهو الشاعر الذي قصر معظم شعره ان لم يكن كله علي قضايا الانبعاث القومي والحضاري في مواجهة عقم الانحطاط وشراسة الأعداء ، كان حاوي حسب تأكيد جابر الأنصارى مهموما بالقضايا العربية وفي عمقها القومي والحضاري خاصة حيث كانت بمثابة خبزه اليومي وهو الذي لم ينشغل بهموم تأسيس عائلة أو الارتباط بزوجة أو الاهتمام بمشروع شخصي، اللافت للإنتباه ( لايزال الكلام للأنصارى ) أن خليل حاوي قد فكر في عملية انتحار علني علي رؤوس الأشهاد يعلن فيها احتجاجه الصارخ علي تردي الأوضاع العربية ثم يلجأ إلي فعل الانتحار باعتباره الفعل الوحيد المتاح أمامه :
فانني طبع المجاهد / لم أعد غير مشاهد / فلأمت غير شهيد /مفصحا عن غصة الإفصاح /في قطع الوريد ..،
وكان يتصور نفسه وقد حمل مسدسه وذهب به إلي منطقة الحمراء ببيروت المكتظة بالناس ليقوم بانتحاره العلني غير أنه أدرك انه ليس في تقاليد الحياة العربية ( فعل انتحار ) كهذا يماثل الــ ( هارا ــ كيري ) الذي لجأ إليه ميشيما في اليابان ولا يستبعد أن يكون حاوي قد تابع قضية انتحار ميشيما خاصة وأنها حدثت عام 1970 بعد أن فجع حاوي بكارثة يونيو 1967 ظل ينتظر قدره بعد 15 سنه في يونيو 1982 عندما تجددت الهزيمة دون رد عربي في مستواها .. وكانت من آخر عبارته : رباه كيف أستطيع تحمل هذا العار ؟ ….الغريب أن العار مستمر ويتجدد ولا أحد يملك شجاعة أن ينتحر .. فضلا عن بطولة أن يستشهد !
أضف تعليق