كتاب سبر

إعلام الثورة ..

في خضم العمل اليومي وغمرة التغطيات ومتابعة أحداث الثورات العربية, كان لـ جملة قصيرة جاءت في مقدمة برنامج يوم الخميس الماضي وقع خاص، إننا نقدم هذه الحلقة بمناسبة مرور ستة أشهر على هروب زين العابدين بن علي وإسقاطه عن سدة الحكم في تونس، الثمرة الأولى للربيع العربي, وبعدها أسقطت مصر “فرعونها” في ثمانية عشر يوما واندلعت ثورات شعبية في البحرين وليبيا واليمن ثم سوريا، واستوقفني تحديدا أنها ستة أشهر فقط، فهل كانت كذلك! في تقديري أن الأحلام الكبرى لا تقاس بالزمن البشري، يمكن لهذه الأشهر المعدودة أن تكون بانجازها وعظمتها دهرا، أو أن تكون لحظة.. يتوقف هذا على موقع الفرد وموقفه وشعوره بما جرى.

كل شيء في هذا الكون انحاز للثورة، الجيش والإعلام والطلاب في جامعاتهم والأمهات والأشجار، خلع رشيد عمار وضباط الجيش المصري بزاتهم العسكرية وانحازوا، رمى طلاب المدارس كراساتهم في وجه معلم ساذج لم يقل لهم يوما لماذا يتعلم الإنسان وانحازوا، ارتفعت أكفّ الأمهات من كل منزل عربي في انحياز بشري فاضح وواضح وكليّ للحرية والكرامة، زرع الصحفيون العرب كاميراتهم في قلب ميادين التحرير، غرسوا الميكروفونات وانحازوا، علي الجابر تطرف في انحيازه الإنساني وروى أرض الثورة بـ دماءه الطاهرة، وأَذِن لجسده فيما بعد أن بعود لبلاده وأولاده، وحدهم كانوا ضد الثورات، أصحاب المصالح من السياسيين والاقتصاديين والإعلاميين الذين شتموا الاحتجاجات الشعبية وناهضوها بألف حجة باهتة، بعضهم صمت بطريقة شكلت احراجا لـ سكان المقابر، كيف يمكن لصحفي يكتب ويتحدث يوميا دون أن يمر ولو “بالخطأ” على البراكين المتفجرة من حوله!.

الانحياز كلمة مفتاحية في الفقرة السابقة لو لاحظتم، فهل يُقبل الانحياز من مؤسسات الإعلام؟ وهل يجوز للإعلاميين أفرادا ومؤسسات أن يتخذوا موقفا من الأحداث؟ ولماذا يتوجه الناس لوسائل إعلام بعينها مع معرفتهم المسبقة بمواقفها العامة أو قل يتوقعون ذلك منها؟ وما هو المقدار المقبول والجائز من المواقف لوسائل الإعلام وكيف يمكن ضبطه؟.

لا أطرح الأسئلة بغرض الإجابة عليها، ولا يملك أحد منا إجابات كاملة ونهائية, لكننا نواجه كثيرا من هذه العناوين في اللقاءات الصحفية والمنتديات والمجالس، والجمهور الواعي وحده يستطيع إطلاق نقاش عام ومفتوح حول ما سبق, الناشطون في الشبكات الاجتماعية يمتلكون السلطة والشرعية الكاملة للتفكير والتحليل والبحث في هذه القضايا، الشباب والشابات الذين قابلناهم في الدوحة والرياض والدمام والكويت والبحرين والإمارات والقاهرة من كل الجنسيات، هؤلاء الذين استدرجونا لأحلامهم وآمالهم وأفكارهم الكبيرة يستطيعون فعل ذلك، سيحدث هذا مع مرور الزمن وتمام التصفيات وجلاء الفرز الموضوعي لعمل وسائل الإعلام.

ليس الإعلام علماً ينبغي فصله عن الإيديولوجيا حسب رؤية الدكتور عزمي بشارة، فعالم الصحافة هو عالم إيديولوجي بكل ما في الكلمة من معنى, والبحث عن صحفي من دون إيديولوجية كما يقول بشارة كالبحث عن رجل دين بلا غرائز، أو كالبحث عن فنان له عاطفة وليس له عقل. ولكن المهمة تكمن في قدرته على تحييد الإيديولوجية حيث يلزم، وعدم الخجل بها أو سترها حيث لا يلزم, وفي العبارة (حيث يلزم وحيث لا يلزم) يكون النقاش لدينا معشر الصحفيين ..

يستكمل عزمي بشارة شرحه بالقول: ينتشر الخلط بين الحياد والموضوعية، وهو نزعة منتشرة للتبرقع بالمهنية هروبا من الموقف، وحتى من غياب الكفاءة أحيانا, بموجب هذه المغالطة تتطابق المهنية مع الحياد, تتطلَّب المهنية توخّي الموضوعية في تقصي الحقائق، ولا تهدف إلى الحياد، وقد تقضي الموضوعية بعدم الحياد، كما قد يكون الحياد غير موضوعي. وإذا توفرت معلومات كافية، وغير مفترضة، عن أهداف فعل ما فمن غير الموضوعي ألا تسمى الأشياء بأسمائها، والقول بأن الفاسد والمتضرر من الفساد هما طرفان لا بد من الحياد بينهما لتوخّي الحقيقة، كالقول بأن عنف الاحتلال كعنف الواقع تحت الاحتلال، كالقول بأن حرية الرأي وقمع حرية الرأي هما طرفان ولا بد من حيادية الصحافي بينهما, الموضوعية لا تعني الحياد، بل تعني الانحياز للحقيقة..

في التنظير السابق لفكرة الحياد والموضوعية والمهنية والانحياز يجد الصحفي القلق ضالته، يدرك تماما ما هي الفواصل اللازمة والواجبة في رؤيته وموقفه وعمله، ولا يكون مجديا طرح التساؤلات الكثيرة والمتكررة عن تلك الأوهام المتعلقة بالحياد وخلطها بالموضوعية والمهنية والعمل الصحفي على أسس سليمة، ودعونا نتساءل: ما هو وجه الموضوعية في تولي حكام الجمهوريات العربية السلطة في بلادهم؟ أين تكمن الموضوعية في الثروات التي كونها هؤلاء وأسرهم وأقاربهم وموظفوهم خلال فترة الحكم الطويلة ودون شرعية؟ وهل تواجهنا أزمة في تشخيص القمع والفساد والانهيارات الاقتصادية والأخلاقية والسياسية في إدارتهم لهذه الدول !؟ هل يمكن وضع بشار الأسد ومبارك والقذافي وأولاده وصالح وبن علي وزوجته وصهره وعائلتهم في طرف وقتلاهم في طرف آخر لنتخذ الحياد!، ماذا يمكن أن تفعل أمام سلطة استبدت بلا حدود، وأمام شعوب حرمت معظم حقوقها, وأمام إعلام صحفي رسمي, يقول بشارة في ورقة له عن الإعلام، إنه استقر كأداة بيد السلطة يبرر لها خطواتها قبل وقوعها، وحين تقرّها، وحتى بأثر رجعي إذا بلغ الأمر لعلمه متأخرا، وهو يزيّف الحقائق وينشر الإشاعات, ولا يلتزم بمهمته التحقيقية في البحث عن الحقيقة، ويحجبُ النقد, ويبرّر حجب المعلومة, ويستخدم التحريض والتعرّض لذوي الرأي المخالف والتشهير بهم, كما يناقض مفهومه إذ أصبح مجرد قطاع من قطاعات الأعمال والتسلية والترفيه!!.

ومن الواجب الإشارة لأمر مهم في الاتجاه الآخر، لا يكفل الانحياز للحق والخير والعدالة والحرية عدم الوقوع في الخطأ بالنسبة للإعلام (أفرادا ومؤسسات)، هناك كثير من الملاحظات والهفوات تطفح على السطح في عمل المؤسسات الصحفية المنحازة حيث يجب الانحياز، وهذا لا يدفعنا أبدا لتبرير الأخطاء أو إدانة الانحياز, واجب الإعلام الصحفي الحقيقي أن يستند على منظومة القيم الإنسانية، وواجبه أيضا اعتماد الآليات المهنية الصحيحة وكبح جماح العاطفة وتحري الدقة اللازمة في إنتاجه مهما كانت الظروف.

الإعلام الصحفي ينحاز لما يراه صحيحا دون اخلال بالموضوعية

الإعلام الصحفي لا يكذب أو يزور أو يزيف أو يخفي الحقائق لأغراض ايديولوجية

الإعلام الصحفي يضع الأخبار في سياقاتها الصحيحة

الإعلام الصحفي يفصل بوضوح بين الخبر والرأي

الإعلام الذي لا ينحاز إلى الشعوب غالبا يكون منحازا للأنظمة

الإعلام الصحفي الحر المستقل النزيه والموضوعي مسألة نسبية وخاضعة للظروف المحيطة به

لا يجوز للعاملين في الإعلام الصحفي الانتساب الكامل للأحزاب والحركات السياسية والمشاركة في نشاطاتها..

يجوز للإعلامي أن يكون صاحب رأي وموقف شرط أن لا يكون ذلك عائقا أمام موضوعيته ومهنيته ومصداقيته..

معظم الإعلام العربي الرسمي والخاص يعمل تحت مظلة الحكومات ويحصل على مقابل مباشر أو غير مباشر..

التمويل الحكومي لوسائل الإعلام ليس عيبا في الظروف الحالية, التمويل الذي يأخذ وسائل الإعلام في الطريق الخطأ هو العيب..

حسم مسألة التمويل واستقلالية الإعلام وحريته في الدولة الديمقراطية هو المخرج لأزمة الإعلام العربي

يمكن القول إن الربيع العربي ظاهرة استثنائية في تاريخنا المعاصر , استدعت أن يكون كل شيء استثنائيا معها.. 

يقول فيليب سيب بروفيسور الصحافة والدبلوماسية العام في جامعة كاليفورنيا الجنوبية ومؤلف كتاب (تأثير الجزيرة: كيف يعيد الإعلام العالمي الجديد تشكيل السياسة الدولية) الصادر بنسخته العربية عن مركز الجزيرة للدراسات والأبحاث, وقد صدرت نسخة الكتاب الإنجليزية نهاية سبتمبر2008، يقول : “تأثير الجزيرة” كتابا وظاهرة إعلامية معا، يعتمد على الأمل وعلى الإيمان بأن الناس إذا منحوا حرية أكبر في اختيار سياستهم وطريقة حصولهم على المعلومات سيصبح العالم مكانا أفضل. وقد يساهم تأثير الجزيرة في الدفع بذلك المسار إلى الأمام.

وللحديث بقية..

@alialdafiri

 

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.