كتاب سبر

القصاص

ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون .. صدق الله العظيم
 
أكثر ما يدعو للشفقة هذه الأيام الحديث العاطفي للبعض عن محاكمة مبارك ، فالتعليقات التي رواحت بين (ارحموا عزيز قوم ذل) والعفو عند المقدرة وصولا إلى التطلع نحو مستقبل مصر وكبت الأحقاد والرغبة بالانتقام والتشفي من حاكم مخلوع , لا يمكن التساهل معها أبدا ، وهذا لا يشمل أبدا الأفراد الطيبين الذين تحكمهم العاطفة في إصدار هذه الأحكام ، فهؤلاء يتفهم المرء دوافعهم ويشترك معهم فيها لو كانت المسألة ضمن الإطار الشخصي أو القضايا البسيطة .
 
لا بد أولا من تفكيك الدعاية  القائمة على تجاوز قضية مبارك وأبنائه ، فالرئيس المخلوع حسني مبارك لم يكن عزيزا ، وتوليه رئاسة البلاد ثلاثة عقود لم يكن سوى اغتصابا للسلطة ، ولم يكتفي بذلك فقط ، بل زاوج بين اغتصاب السلطة واغتصاب الأموال ، وجير سياسة البلاد داخليا وخارجيا لتحقيق هذا الهدف مما راكم الثروة لديه ولدى أسرته ومحيطه من رجال الأعمال ، أفسد الرجل بإدارته كل شيء ، فرط بسيادة البلد ورهن سياسته الخارجية ومواقفه لمن يدفع أكثر ، أخلَّ بالأمن القومي لمصر وهو أكبر الكبائر في الحكم ، من تابع قضية مياه النيل وحصة المصريين المتراجعة منها باستمرار ، والمواقف الإفريقية التي يشتد عدائها يوما بعد يوم للبلاد التي كانت تؤثر في إفريقيا أكثر من غيرها ، والتشدد السياسي المصري في زمن مبارك تجاه الفلسطينيين لدرجة جعلت من تسيبي ليفني تتجرأ وتعلن حربها على غزة من القاهرة ، من يعرف حجم الفساد الكبير في جهاز الأمن ومقدار الظلم الذي تعرض له الناس في سجون مبارك ، من راقب كيف تباع سياسة ومواقف مصر من أجل حلم جمال ابنه بالرئاسة ، يعرف ويدرك تماما أن مبارك لم يكن عزيزا أبدا ، كان ديكتاتورا فاسدا وظالما لا موقف لديه سوى ما يخدم مصلحته ومصلحة المقربين منه .
 
ثم إن مبارك لا يقف اليوم أمام شعب مصر معتذرا معترفا بذنبه راغبا بإعادة ما تراكم لديه من أموال حتى نقول إن الرجل هَرِمٌ يصارع الموت فاتركوه !, نحن أمام رجل ينفي وينكر كل ما ينسب له باحتقار لا يستحق التعاطف ، يكابر الرجل وفي داخله قناعة أن من بقي من رجال حكمه لن يسمحوا بإدانته ، فهل يستحق مثل هذا العفو!، أما مستقبل مصر الذي يطالب البعض بالتفكير فيه – باستغباء مقزز للثورة – وينادي بتجاهل هذه المحاكمة ، فإنه يريد تمرير أكبر وأسخف كذبة على الإطلاق بحجة ثورية!، كيف يمكن النظر لمستقبل بلاد جُلّ ثرواتها ومقدراتها بيد حفنة من اللصوص ينادي البعض بعدم محاكمتهم ، وكيف لمستقبل مصر أن يكون زاهيا وأعداء الثورة يتحكمون بمفاصل البلاد ويقدمون الهبات للثوار بالتقسيط !، كيف سيقبل الناس الرضوخ لنظام ديمقراطي عادل جديد وهم يرون سرّاق البلاد ومجرميها يسرحون ويمرحون أمام أعينهم !.
 
هناك حجة أخرى يرددها البعض بحسن نية أو بغيرها ، ويدعون فيها أن تشدد الثوار في مصر وتونس لمحاكمة المخلوعين زين العابدين بن علي وحسني مبارك هو ما دفع بالبقية للتشدد في مواجهة الثورة ، أي أن علي عبدالله صالح ومعمر القذافي وبشار الأسد كان يمكن أن يرضخوا لمطالب شعوبهم سريعا لو أنهم شهدوا تعاملا ألطف مع سابقيهم !, وبعيدا عن القول إن هذه الحجة ساذجة وغير مقنعة أبدا ، وأن تشدد القذافي وصالح وبشار كان من اليوم الأول وقبل أن يحدث شيء في مصر وتونس ، لا بد من التأكيد على الخطأ الذي يقع فيه هذا النوع من القياس ، فالفعل الصحيح يظل صحيحا وإن ترتب عليه ما يضر ، وإن تكرر هذا الضرر ، فالثوار في كل بلد عربي شاهدوا القتل والإجرام والعنف غير المسبوق في البلدان الأخرى , ولم يتسبب هذا الأمر بعدولهم عن خوض غمار معركة الحرية ، والمحاكمة العادلة لرئيس تسبب في خراب البلاد ستبقى فعلا صحيحا ولازما وضروريا وإن نتج عنها ما لا يرضينا ، ولو كان القياس على هذه الحجة صحيحا لما كرر الناس أفعالهم الصحيحة وهم يعرفون مسبقا نتائجها السلبية ، التي تمهد لاحقا للنور !.
 
إن ما شهدناه صباح الأمس لم يكن محاكمة شخصية لمبارك وأولاده ، كانت محاكمة يعقدها جيل بأكمله لجيل سلطوي حكم بلادنا طوال العقود الماضية ، لسلطة فرطت بأحلامنا وآمالنا وطموحاتنا ، كانت محاكمة لكل نظام عربي استفرد بحكم شعبه وألغى كافة حقوقه الأساسية ، إنها محاكمة لحرماننا من حقنا في حرية التعبير والعيش بكرامة ، لم تكن محاكمة في أكاديمية الشرطة التي كان يزهو  بها مبارك والعادلي في أيام الظلام ، بل كانت محكمة عربية تعقد في السماء ، قضاتها خالد سعيد ومحمد البوعزيزي وحمزة الخطيب وشباب اليمن والبحرين وليبيا ، وشهودها آلاف المعتقلين بدون محاكمة في بلادنا وآلاف المظلومين والمحرومين والمطحونين ، مع ملاحظة أن المتهمين ليسوا أولئك الذين وقفوا في القفص الصغير الحقير الذي شاهدناه البارحة فقط ، بل في أقفاص أخرى أكبر وأفخم من ذلك!.
@alialdafiri

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.