في منتصف القرن العشرين ، ومع ثورات الاستقلال والتحرر في عالمنا العربي من نير الاستعمار ، انتعش الوجدان العربي ، وارتفعت الرؤوس المهزومة الذليلة ، وكان لها الحق أن ترتفع قدر ما تشاء ، انتهى عهد الأغلال والاستعباد والتبعية المطلقة لأجنبي يحكم البلاد من قصر حاكم محلي خسيس يفرغ كل عقده بالمزارع والعامل البسيط ، ويستمد قوته المحدودة من قوة الأجنبي المطلقة الممنوحة له ، وبإذلالٍ كبير .
يومها قال عبدالناصر : ارفع رأسك يا أخي ، لقد ولى عهد الاستعمار ..
وفي ظل أزمة بناء الدولة الحديثة ، والصراع مع المستعمر الذي خرج رأسه من البلاد وبقيت امتداداته في الداخل ، والثنائية القطبية التي أغرت العسكر بالسلاح والمال والتبعية ، وفي ظل الرجعية ، وحداثة التجربة ، والخبرة المحدودة للقيادات الجديدة ، والصراع على القيادة بين الحكام الجدد ، وعدم تبني الديمقراطية كخيار جدي وحقيقي لإدارة الشعوب المتحررة حديثا ، والخلافات العربية العربية وتنامي ظاهرة النميمة والكيدية بين الأقطار الجديدة ، والجهل الشعبي الناتج عن الفقر وضعف التعليم ، في ظل هذا كله ، تورمت العاطفة العربية بفعل فاعل لا بشكل تلقائي ، توغلت الأيدليوجيا في الحياة اليومية للناس ، أصبح طعامهم وشرابهم مشبعا بأفكار ثورية زائدة عن الحاجة وعن الاستيعاب ، اهتمت السلطة بشرعيتها الثورية عبر حقن الناس بالعاطفة وتخديرهم بالشعارات ، وليس كل شعار خطأ ، لكن تحول الحياة إلى مهرجان من الشعارات كان كفيلا بتفريغ المشروع من مضامينه الحقيقية ، وبمجرد أن غاب ثوري حقيقي ألهم وجدان الناس وعقولهم انتهى كل شيء ، كافأتنا مرحلة عبدالناصر العظيمة بأنور السادات ! وأنور أودى بنا إلى حسني !!، وفي التجربة المصرية الحديثة اختزال مدهش لحالتنا العربية ، ما يجري هناك يجري في كل مكان لاحقا ، وبنسخة أكثر رداءة أحيانا !.
ومرة أخرى يفعلها العربي الجديد ، الإنسان الذي تصوره (إم بي سي) راقصا لاهيا يفرك يديه حسرة على غياب جورج قرداحي وينتشي طربا بعودة نيشان !، ها هو يثور بعد نصف قرن من ثورته الأولى ، ويثبت عروبته غير القائمة على وحدة مشاهدة برامج المسابقات ، ينهض في سيدي بوزيد ، ويطل على كل عاصمة عربية ، يرفع رأسه كما فعل في المرة الأولى ، عربي متدين بالفطرة ، ليبرالي متفتح على العالم ، ديمقراطي بالضرورة ، متعلم بشكل كافي لإبهار الآخرين ودحض حججهم الباهتة ، متيقظ لكل قذارات السلطة وسوءاتها ، يقطع تذكرة من الكويت ليدافع عن أسر الشهداء المصريين بعد أن حاول غيره تشويه صورة مواطنيه بالدفاع عن مبارك ، سعودي يسجل موقفه الداعم للثورات وسعي الشعوب للتحرر من الاستبداد ويخوض معركته النقدية بشراسة مع الساعين لإبقاءه في بقعة التبعية والخصوصية المقيتة ، ليبيٌ يقدم درسا في الصمود ، بحرينيٌ ينتزع عروبته وإيمانه ممن يريد اختطافهما ، ويمد يديه لمن يقف في الضفة الأخرى خائفاً متوجساً طالبا منه الاقتراب ، سوريٌ في ريعان الشباب يصدّر من درعا دروسه التاريخية في الشجاعة لكل أقرانه ، يمنيٌ أنهى في أشهر خرافة الجهل والقبلية والقاعدة وجعل من الرجل الراقد في مستشفى بالرياض أضحوكة أمام العالمين ، مصريٌ أحال رقعة الميدان الصغيرة قبلة للحالمين والباحثين والصحفيين والسياسيين الراغبين بفك شفرة الإعجاز الثوري لشباب تلك البلاد ، وتونسيٌ يقدم العروبة الجديدة الحرة الطامحة على طبق من ذهب لأمته ، ويرسم عالمه العربي أخضرا كما يجب له أن يكون .
والعربي الثوري الجديد عاطفي بما يكفي لشحذ الهمم في ظل أشرس المعارك مع الاستبداد ، لكنه واقعي ومنطقي في تفكيره ، لا تنطلي عليه السخريات التي يدونها بعض كتاب الزوايا في صحفهم ، لهشاشتها أولا ، ومعرفته الكاملة بخلفياتها الحزينة المثيرة للشفقة ، وعاطفته الكبيرة كفيلة بمنح هؤلاء فرصة التجاوز عن سخافاتهم وهزلهم المريض ، فهو يؤمن أن لا تحرر بدون ثمن ، ومن الثمن أن تضطر للوقف في وجه الشيوخ وملاحق الشيوخ المزروعة في الزوايا والتلفزيونات ومسلسلات التهريج منتهية الصلاحية ، وأثمان أخرى تدفعها الثورة بشكل يومي ، عبر محاولتها اليومية لإعادة تعريف الأشياء بشكل سليم ، وإيمانها المطلق بجسامة المسؤولية التي يتقاسمها المثقف والسياسي والإعلامي والمواطن الذي يخوض معركته عبر الشبكات الاجتماعية عبر عمل جماعي ونشاط لا يتوقف ، وأن من يعيّره بالفوضى الناتجة عن سقوط الأنظمة إنما يفعل ذلك لأنه لا يريد التحرر أصلا ، بفوضى أو بدونها ، لا يفعل ذلك لأنه اتخذ موقعه الثقافي والإعلامي والديني والسياسي في أحضان السلطة القائمة ، ولأنه لا يملك مقومات النظر للمستقبل ، ولا مقومات احتلال مكانته الحالية في ظل المساواة والعدالة المنتظرة والمفترضة ، ستقذفه الزوايا حينها بشكل تلقائي !.
وحتى ذلك الحين ، سنطلق العنان لعواطفنا ، وسترتفع رؤوسنا لأعلى مدى ، والعاطفة ليست نقيض العقل بل متممة له ، كل المشاريع العظيمة في عالمنا بدأت بمشاعر محفزة ، أحلام الثورة المصرية الأولى غذتها العاطفة في مهدها وجعلت منها واقعا ملهما للآخرين، الشباب الذي حركته دعوة على الفيس بوك وجعلته يقف بثبات أمام القوات الخاصة المدججة بأعتى السلاح ، فعل ذلك مدفوعا بعاطفة صادقة ، فيما كان الآخرون ينفقون وقتهم بالسخرية ، وما زالوا يفعلون ذلك بأساليب مختلفة!.
علي الظفيري
@alialdafiri
أضف تعليق