كتاب سبر

كم نحن بحاجة إلى هذا الخلق؟

لا يختلف عاقلان على فضيلة حفظ العهد ومعرفة قدر المنعم، فإن هذه الخصلة دليل على صفاء معدن من يتحلى بها وطهارة نفسه.
وما ذاك إلا لأن كثيراً من الناس – مع الأسف الشديد- لا يحب الاعتراف بفضل الناس عليه، لما يرى في ذلك من امتهان لقدره والحط من كرامته، ولذلك تجده حريصاً على كتمانه ككتمانه سراً يتوقف قتله على إذاعته! وهذا لا شك أنه في الغاية من الانتكاس على المفاهيم الراقية والمجانبة للفضائل.
ولو لم تكن هذه الخصلة من الفضيلة بمكان لما ضرب لنا رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة فيها عندما حفظ العهد والمعروف للمطعم بن عدي عندما أجار النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال عليه الصلاة والسلام في أسرى بدر: “لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء لوهبتهم له”.
انظرمن يحفظ العهد لمن؟!
رسول الله للمطعم بن عدي!
رسول الله صفوة الخلق للمطعم بن عدي رجل من المشركين!
وماذا كان يرجو منه الرسول؟ لا شيئا لولا أن أخلاق الرسول أبت إلا أن تظهر هكذا فضائل.
حق لنا أن نبكي دماً بعد أن تحسر المتنبي قبلنا بألف ومائة سنة على هذا الخلق بقوله:
“ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا”.
حقيقة نحن لا نتحسر على هذا الخلق حبا للنياحة كحال العالم العربي النائح على الماضي والغافل عن المستقبل- ولكن نحن نتحسر على هذا الخلق لما له من خصوصية جسدها عنترة الفواس بقوله:
نبئت أن عمر غير شاكر نعمتي  =  والكفر مخبثة لنفس المنعم
فعند انعدام شكر المعروف تضعف همة المنعم عن فعل الخير.
ختاما أحب أن أختم بقصة فيها من معرفة قدر المعروف الشيء الكثير.
قال أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني:
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد، قال أخبرني علي بن القاسم، قال: قال علي بن جبلة: “زرت أبا دلف بالجبل، فكان يظهر من إكرامي وبري والتحفي بي أمرا مفرطا، حتى تأخرت عنه حينا حياء، فبعث إلي معقل بن عيسى، فقال: يقول لك الأمير: “قد انقطعت عني، وأحسبك استقللت بري بك، فلا يغضبنك ذلك، فسأزيد فيه حتى ترضى، فقلت: والله ما قطعني إلا إفراطه في البر، وكتبت إليه”:
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة  =  وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفـــــــــــر
ولكنني لما أتيتك زائــــــــــــــــرا  =   فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فم الآن لا آتيك إلا مسلمــــــــــــا  =   أزورك في الشهرين يوما أو الشهــر
فإن زدتني برا تزايدت جفـــــــوة =   ولم تلقني طول الحياة إلى الحشــــــــر
فلما قرأها معقل استحسنها جدا وقال: “أحسنت والله، أما إن الأمير لتعجبه هذه المعاني، فلما أوصلها إلى أبي دلف قال: “قاتله الله” ما أشعره وأدق معانيه، فأعجبته فأجابني لوقته، وكان حسن البديهة حاضر الجواب:-
 ألا رب ضيف طارق قد بسطته = وآنسته قبل الضيافة بالبشـــــــــــــــــر
أتاني يرجيني فما حال دونـــــــه = ودون القرى والعرف من نائلي ستري
وجدت له فضلا علي بقصـــــده =  إلي وبرا زاد فيه على بــــــــــــــــــري
فزودته مالا يقل بقـــــــــــــــاؤه = وزودني مدحا يدوم على الدهــــــــــــــر
قال: وبعث إليَّ بالأبيات مع وصيف له، وبعث معه إليَّ بألف دينار، فقلت حينئذ: “إنما الدنيا أبو دلف”.
عبدالكريم دوخي المنيعي
تويتر:do5y

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.