كتاب سبر

بوابة.. التمّيز

من على أحد هضاب نجد, قبل ما يزيد عن 1400 عام, وقف فارس بني عبس, منشداً بصوت جهوري ومتسائلاً: هل غادر الشعراء من متردم؟ هل بقي فن أو طريق لم يطرقه أو يسلكه الشعراء؟ كان يشكو من أن الشعراء لم يتركوا لمن خلفهم أي موضوع؛ لينظموا فيه قصائدهم, بالعربي أكلوا الأخضر واليابس! لكن, هل يئس الشعراء؟ وضاقت بهم السبل, وجفت ألسنتهم وقرائحهم؟ كلا, لم يحدث شئ من هذا, بل أن عنترة نفسه, بعد ذاك البيت المذكور أعلاه, أدخلنا في معلقة طويلة عريضة – قيل أنها علقت على الكعبة – تمددت حتى وصلت إلى 116 بيتاً, ثم جاء عميد الأدب العربي السيد / طه حسين, لينفيها عن بكرة أبيها وينسبها لرواة وشعراء مجهولين بجرة قلم, بعد أن شرب شايا بلبن, ولكن هذه قصة أخرى!           
طوال الــ 1400 عام منذ صرخة ذاك الذي تذكر – ويا للغرابة – حبيبته (عبلة) عندما رأى الرماح تنهل من دمه! استمر الفيضان الشعري, وتكدس آلاف الشعراء على أبواب الأعطيات, وسنوا ألسنتهم للهجاء, ورثوا وتباكوا على الأطلال، كان الزبد كثيراً, وأما ما يمتع الناس فكان القليل، ثم انتقل ديوان العرب من الشعر إلى الرواية, وجرفنا فيضان روايات لا حصر لها, القليل برز وتألق, والكثير.. الكثير كان هباءً منثوراً.  
ويبقى السؤال: كيف يأتي الجديد المتميز؟ سؤال من أربع كلمات, والإجابة عنه قد يفنى المرء ويستحيل ترابا! ولا تكتمل إجابته! لن أزعم هنا بأني سأجيب عليه إجابة شافية وافية, جامعة مانعة, بل, سأحاول أن أدل عليه, حسبما تأتى لي من مجموع مطالعات؛ ليسير فيه من شاء, ويصد عنه من رأى في نفسه, فلتة زمانه, ووحيد عصره.. أو حتى.. وحيد القرن!   
                           مــا  نــالَ أَهــلُ الجاهِلِيـةِ كُـلهُم     شِــعْري ولا سَـمِعَتْ بسـحري بـابِلُ 
 
 لا فض فوك يا أبا محسد, لكن, لندع سحر بابل جانبا, فنحن قوم ننشد السلامة في الحل والترحال, ولا قبل لنا بتلاميذ هاروت وماروت. ولنمسك الشطر الأول بكلتا يدينا متأملين. ما نال أهل الجاهلية كلهم شعري, يخبرنا السيد / أحمد حسين المحترم هنا ويزعم أنه فاق شعراء الجاهلية.. كلهم! وأنا أوافقه بهذا، لكن يجب أن نتساءل هنا.. كيف علم أنه فاق أهل الجاهلية؟ من أين جاءه هذا الإحساس؟ ظني – الذي أرجو ألا يكون إثما- وما علمته من سيرة السيد / أحمد حسين, أنه قد تعلم في طفولته وشبابه أشعار الجاهليين وحفظها، فاستقرت في عقله الباطن. وظل هذا دأبه, يلاحق الأشعار والشعراء, يحفظ ما قالوا ( ومن أخذ ِمِن من؟) وطور ملكاته اللغوية عندما كان يخرج للبادية؛ ليعيش بين القبائل هناك, فتكونت لديه حصيلة لغوية فريدة, انعكست روحها ومفرداتها في قصائده. باختصار.. “علم من جاء قبله, فعرف من سيجيء بعده” فحق له أن ينشد:
                        
                          أنـا السـابقُ الهـادي إلـى مـا أَقولُـهُ إِذِ       القَــولُ  قَبــلَ القــائِلين مقـولُ
  من هنا, يتضح بالمثال المقال بأنه من الواجب, بل من البديهي, أن يقرأ من أراد الإبداع والتميز, في مجاله الذي يعتقد – هو – بأنه سيبرع به. يردُ عيون الشعر من أراد الشعر, ومتون الرواية من أرادها، كذلك يجب ألا ينسى نصيبه من العلوم الأخرى, بل هي ضرورة، فالشاعر, ليس بمعزل عن الاقتصاد وعلم النفس والرواية والسياسة والسير والتاريخ, وكذلك القاص والراوي. 
أستغرب حقيقة, من قاصين وروائيين أماجد! يفتخرون في لقاءاتهم الصحفية بقلة قراءاتهم! لم يكلفوا أنفسهم يوما عناء النظر في دواوين الشعر, ناهيك عن حفظ بضع أبيات, لم يطالعوا في التاريخ – إن طالعوا – إلا ما كتبه المحدثون! لم يذهبوا إلى المراجع الأصلية. حسنا, سأحسن الظن ربما كانت لديهم حساسية من الغبار العالق في تلك الكتب القديمة! عندما تُصف تلك المعارف في الذاكرة وتتشربها وتتمازج فيما بينها. ستُصنع غيمة الإبداع, التي تنتظر شرارة الموهبة لتهطل بالجديد المتميز. سيعمل العقل بسهولة أكبر, سيحلق في سماوات الإبداع الخلاق فارداً جناحيه, فلديه الرخصة لذلك, وسيكون البنيان أسس على أسس متينة, لا على شفا جرف هار.. فينهار به! وهذا شيء مجرب, ولا ينتمي لجنس المثل الشامي القائل: (اللي يجرب المجرب, عقله مخرب)!
 والقراءة يجب أن تظل مستمرة, ما تعاقب الليل والنهار؛ ليظل الذهن متوقدا, و يصدق فيه قول الشاعر:         
                                  وقاد ذهن إذا جالت قريحته .. يكاد يخشى عليه من تلهبه 
  وبالمناسبة, القراءة بدون قلم باليد, لتلخيص واستخراج الجديد المفيد من الكتاب, كالنقش على الرمال, سرعان ما تزول أمام رياح.. النسيان! إذا جوَلنا النظر, في المشهد الثقافي, سنلاحظ أن جل من ولجوا لعالم الأدب, يعتمدون اعتمادا كليا على الموهبة – إن وجدت ! – و يكتفون بها, وهذا من الخلل والخطل, فالموهبة لا تغني عن الدراسة والاجتهاد شيئا.
 وجود الموهبة مهم وهو الركيزة الأساسية في البناء؛ لكن الأهم هو الاعتناء بها ونحتها وصقلها, بطلب العلم وبذل الجهد والاشتغال على الفكرة وبنائها، فالعلم والجهد ضروريان، بل لو جئنا بعديم الموهبة, وصببنا في جمجمته العلم صبا, و كان مثابرا, لأتى بعمل جيد، لكنه, عمل بطبيعة الحال يفتقد التجديد والتميز, لعدم وجود الروح الخلاقه في نفسه، أذكر أنك قلت شيئا عن المثابرة يا أبا الطيب فهلا أنشدت لنا بيتا, لو تكرمت؟: نعم: قلت:
                          لــولا المشــقةُ سـادَ النـاسُ كُـلَهم       الجـــودُ يُفقِــر والإقــدامُ قَتَّــالُ 
 وأنشدت كذلك: شكراً شكرا يا أبا الطيب, سنكتفي بهذا البيت في الوقت الراهن, لضيق الوقت, ولعدم امتلاكنا لخيل نهديها ولا مال, لا عدمناك! لكي لا نطيل, فتحسون أنكم أمام الخطيب المصقع, صاحب الحجة والبيان, القائد الأممي وعميد الحكام وملك الملوك وإمام المسلمين! سأكتفي بما ذكرت أعلاه. زاد عليه من زاد مشكورا , و تولى عنه من تولى هازا بيديه, فبربكم ما الحيلة فيمن جهل قدر نفسه؟!           
أخيرا: يا فارسنا, الذي توجناك, مثالا للبطولة, والشجاعة والإقدام، ألست القائل: 
                              ولقد أبيت على الطوى وأظله .. حتى أنال به كريم المأكل؟!
 بلى، إذن اسمح لي بدعوتك لعشاء في مطعم قريب لديه كريم المأكل!, فيه رهط من الغيد الأماليد, عندها سنعرف من الذي سيعف عند المغنم….تفضل!  

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.