كنت قد كتبت في المقالة السابقة عن مأزقين أحدهما شامل والآخر نوعي وواجهتهما الحكومة بعد أن صنعتهما بيديها، و في حين أن المأزق الشامل شهدناه الآن في التجمعات الشعبية المتتالية والإضرابات التي عمت إدارات الدولة و قطاعاتها المختلفة, فإن المأزق النوعي في نظري يظل الأكثر خطورة و استعصاء على الحلول الحكومية المبتسرة و السريعة.
فأما المأزق النوعي فإنه يتمثل في الاختلال الهائل في نوعية و جودة الخدمات الحكومية التي منوط بالإدارة الحكومية توفيرها و الحرص على تطويرها بتغير المجتمع من الناحية الزمنية والكمية. وإذا كان مبدأ العدالة الاجتماعية أساساً مهماً استندت إليه مواد الدستور الكويتي، فمن الواجب أن يكون هذا المبدأ حاكماً لتصورات و خطط الإدارات الحكومية المتعاقبة, وعلى هديه توضع الخطط و ترسم السياسات الاقتصادية و التعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية.
و في الوقت الذي اكتسب فيه هذا الاختلال الهائل في نوعية و جودة الخدمات الحكومية شكلاً جغرافياً, درج الكثيرون على تسميته بثنائية المناطق الداخلية و الخارجية, فإن هذا الاختلال ساهم بدوره بعد أن دام لفترة طويلة في تعزيز هذه الثنائية. و لكن الأكثر خطورة في نظري أن ذلك الاختلال ضرب الأساسين الرئيسيين الذي تقوم عليهما الدولة بمفهومها الحديث و هما سيادة القانون و مبدأ تكافؤ الفرص للأفراد، فنحن نعرف تماماً أن غياب مبدأذ العدالة الاجتماعية يضعف و يتلاشى بغياب هذين الأساسين .
و لا يخفى على القارئ الكريم أن غياب العدالة الاجتماعية والاختلال الهائل في نوعية و جودة الخدمات التي تقدمها الإدارات لا يستهدف فئة محدودة من الكويتيين، بل هو يلحق الضرر بشريحة عريضة من المواطنين يصنفون على أنهم ذوي دخل محدود, و هؤلاء بطبيعة دخلهم الاقتصادي الأكثر ضرراً و تأثيراً بضعف مبدأ العدالة الاجتماعية، و لذلك فإن تحديث الدولة وأية جهود بهذا الاتجاه يجب أن تستند إلى فكرة المساواة في نوعية الخدمات التي تلزم الإدارة الحكومية بتقديمها, فالتعليم العام وهيكلته و مستواه يجب أن يكون موحداً في كل المدارس، بحيث أن الانتقال من مدرسة إلى أخرى يكون انتقال في موقع المكان، وليس جودة التعليم, و كذلك الأمر في الرعاية الصحية و الطبية, فمن المفترض أن تحتكم مواصفات و إمكانات المؤسسة الصحية في الكويت إلى مسطرة واحدة ليس فيها اعوجاج أو انحراف, و الأمر نفسه ينطبق على باقي الخدمات.
خلاصة القول، إن سيادة القانون ومبدأ تكافؤ الفرص للأفراد إلى جانب تصحيح الاختلال الهائل في نوعية و جودة الخدمات التي تقدمها الحكومة هو المدخل الكبير للإصلاح و اسكمال مفهوم الدولة الحديثة.
و يؤسفني ألا أخفي سراً على القارئ الكريم, و أقول له إن هذا الأمر في ظل الإدارة الحكومية الراهنة سيكون مثل البحث عن العنقاء التي راهنت العرب على أن أحداً لن يجدها..!
أضف تعليق