يستيقظ في غيرما دوام، فيقرر أن يغير بعضاً من روتينه الممل، وأن يتخلص من بعض رسميته التي طالما قيدته وكبحت جماح شبابه الثائر، رغم وسائل القمع العديدة التي يتعرض لها يوميا على يد ظروف زمان لا يرحم، يقرر بعد شد وجذب في داخله أن يتخلى عن شماغه الأحمر الذي يذكره بالحرية الحمراء على حدّ قول أمير الشعراء شوقي:
وللحرية الحمراء باب *** بكل يد مضرجة يدق
فهو لايحب التطرق لمثل هذه المواضيع أو فلنقل لا يمتلك من الوقت ما يكفي للتطرق لها، فجُلّ ما يمتلكه من وقت وزعه بين السعي في طلب الرزق، وبين النوم من أجل الاستعداد لطلب الرزق مرة أخرى! ، كما يقرر أن يتخلى عن عقاله الأسود والذي يظن أنه استمد سواده الحالك من اسوداد الدنيا في عينيه.
يقف أمام جزء مرآة متباهيا بشعره الأسود، يرجله بفرشاة شعر قد أكل الدهر عليها وشرب وغسّل يديه أيضا!!، يلفت نظره وجود شعرات بيض في مفرق رأسه، يصيبه الهلع، فذاك هو النذير الذي ورد في قوله تعالى:”وجاءكم النذير”، يحاول أن يدسدسهن تحت أخواتهن السود فمنظرهن منافٍ تماما لعمره، فتلفت انتباهه شعرة بيضاء هناك، وأخرى هناك، وأخرى هناك، يعلم بأن محاولته بلملمة الموضوع كما تفعل وزارة الداخلية مع فضائح قياديها قد باءت بالفشل، يظل يرمق تلك الشيبات من خلال المرآة، يحاول أن يقيم معهن علاقة صداقة عله يفلح في إقناعهن بالعودة لسوادهن، يستمع لهن وهن يتحدثن، تقوم كل واحدة منهن بسرد فاصل طويل لا ينتهي من المأساة، وتذكره بما لايحب أن يتذكره عله يغفر لهن بياضهن، وقبل أن تختم حديثها تقاطعها أختها؛ لتكمل سرد باقي القصة وتذكر أختها ما قد نسيت، فالموضوع أشد من أن تستحضره ذاكرة شيبه!!، وهو يستمع في إعجاب تارة لبلاغة حديث ذلك الشيب، وفي ذهول تارة أخرى؛ إذ كيف لشيب أن يتحدث!!
حوادث الزمان ومصائبه هي التي أوجدت ذلك الشيب وهي القادرة على إنطاقه، وصروف الدهر هي التي أزالت سواده وأحالته بياضاً وهي القادرة على أن تزيل عجمته؛ لتقلبها فصاحة، وعوامل القمع اليومية من همّ وغمّ وحزن هي التي ساهمت في تشكيل جبهات معارضة له وانتشاره بين فئات مجتمع الشعر الأسود .
ييأس صاحبنا من محاولة حل الإشكال بشكل ودّي ويعلم أن الأمر قد خرج عن السيطرة، ويحاول أن يستذكر من هو أكثر منه ابتلاء بسطوة ذلك الشيب، فيمر بباله قول الشاعر:
الشيب جاني وأنا جيته *** ونفسي من الشيب مستحية
لو هو على الرأس غطيته *** مير البلا صار باللحيـــة
فيحمد ربه على سلامة شعر لحيته، والذي بلا شك يقول لشعر رأسه: أنتم السابقون إلى الشيب وإنّا – الله لا يقوله – بكم لاحقون، فيعود لشماغه الأحمر، ويقبله بحرارة ويقدم له اعتذاره ويزينه بعقاله الأسود، وكأنه يريد أن يقول إن قراره بترك بعض من رسميته ولو ليوم واحد كان قرارا خاطئاً، ويتغنى بقول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
ويقول في نفسه: سئمتها بعد ثلاثين حولا يازهير!!
ذاك هو حديث الشيب… قف أمام المرآة وحتماً ستسمعه.
منصور الغايب
أضف تعليق