كتاب سبر

الأهرام ولا أنيس

… صعب جدًا أن تفتقد عادة تحبها، وصعب جدًا على نفسي ألا أنظر في (مواقف) أو ألا أقرأ صباح كل يوم ما يقوله أنيس منصور، وصعب جدًا جدًا ومؤلم جدًا جدًا أن أشتري الأهرام وأبدأ من صفحتها الأخيرة، فلا أجد أنيس منصور، وصعب جدًا أن أعرف بوفاة أنيس منصور متأخرًا، نعم قد عرفت بنبأ وفاته في حينه، لكنني لم أنتبه لهذا الموت إلا حين طالعت الأهرام منذ أيام ففاجأني أنيس برحيله عن أهرامنا.
وصعب عسير أن تكتب كلامًا سهلاً، وسهل يسير أن تملأ عشرات الصفحات في ساعة زمن بكلام صعب غامض غير مفهوم وتدعي أنه حداثي وهو كلام فارغ، وكنت أتساءل دائمًا لماذا يكتب الكبار كلاما سهلا، بينما يكتب مدعو الثقافة والصغار كلامًا صعبًا؟ وكانت الإجابة صعبة وجاءتني متأخرة مع رحيل أنيس منصور، وهي ببساطة أن من يمتلك الكثير ومن عنده الكثير يصبح متدفقا سلسًا، ومن يعاني فراغ العقل وقلة الثقافة يعاني لإخراج فضلات قلمه علينا.
ميزة أنيس منصور الكبيرة أنه قدم لنا الصعب سهلاً، وجعل قلمه للجميع باختلاف درجات ثقافتهم، وتباين مؤشرات تركيزهم. ميزة أنيس منصور الفريدة أنك تقرأ عموده في دقيقتين، ولا تشعر به كحقنة فيتامين مقوية للعقل ومحفزة على التساؤل من يد طبيب ماهر لا تكاد تحس حتى بوخز الإبرة. وأصحاب الأساليب السهلة عملة نادرة على طول عمر الكتابة العربية. وأصحاب الكتابة الصعبة يملؤون الأسواق ويسودون الورق كل صباح.
 أنيس منصور ظل تلميذًا يتعلم في الوقت الذي تخيلنا أنفسنا جميعا أساتذة من حقنا أن نكتب عظات السياسة ونصائح المجتمع، وأباطيل السمر. وفي أيامه الأخيرة انشغلنا نحن بالزعيق في وجوه بعضنا البعض، وانشغل هو  بهمسات الرجاء لله، ومن بين آلاف الصفحات التي تركها أختم مقالي بجزء منشور في الشرق الأوسط كتبه أنيس منصور لله: “يا رب أريد أن أهتدي إليك، بك إليك، بنورك على ظلام نفسي.. على كهوفها وسراديبها وغياهبها. تعبت يا رب. فأنا ضعيف وطاقتي محدودة. وأحلامي وأوهامي أكبر من قدرتي. أريد أن أطير، ولكن ريشي قصير ووزني ثقيل ومعاناتي هزيلة ومجاهداتي كليلة.
تعبت وحقك وجلالك ولا حيلة لي… فعذاب الفكر قدري.. يا رب أنظر في نفسي فلا أراني ولا أعرفني. ولا أعرف من ينظر إلى من.. من يسمع من. من يحاول أن يفهم من.. أريد أن أصلب طولي بالعقل وأدفئ نفسي بالقلب… اعذرني. اغفر لي. سامحني إنما أردتُ أن أتسلل إلى ملكوتك.. أتلمس.. أتحسس.. أتواجد.. يا رب تعبت ذهابًا إليك وإيابًا بعيدًا عنك. يا رب إذا كان هذا قضاءك وقدري، فأين لطفك؟ وإذا كان هذا عذابي فأين رحمتك؟”
الله يرحمك يا أستاذ ويعوض مصر والمصريين والعرب عنك خيرًا.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.