الأحداث غير المتوقعة والمتواترة التي حصلت خلال العام الماضي في العالم العربي ومازالت فصولها وآثارها وانعكاساتها لم تنتهِ، وكذلك السلام غير المستقر الذي يعيشه مجلس التعاون لدول الخليج العربية مع جمهورية إيران، إلى جانب بوادر سوء النية التي تبديها طهران بين الوهلة والأخرى بإجراء مناورات عسكرية وتجارب إطلاق صواريخ عابرة، بالإضافة إلى برنامجها النووي المرتقب، وأيضا رسائل التهديد بإحراق المنطقة وإغلاق مضيق هرمز وإثارة خلافات حدودية، والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المجلس، يبدو أنها من العوامل التي دفعت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال افتتاح القمة الخليجية الـثانية والثلاثين، التي عقدت في الرياض مؤخرا، إلى الدعوة بتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد مابين دول مجلس التعاون، الأمر الذي تفاوتت الآراء حوله؛ إذ رحب بالدعوة جميع القادة مع غالبية الشعوب الخليجية؛ لأنها تنطلق من المادة الرابعة للنظام الأساسي للمجلس، مقابل معارضة بسيطة.
وجاءت تلك المعارضة على الرغم من أن هذه الدعوة قد حملت بعض التصورات النموذجية والمطلوبة لما يفترض أن يكون عليه مشروع الاتحاد الخليجي والتي نراها انها تمثل عامل قوة وليس ضعفا حتى ترفض,ومن هذه التصورات:ان الاتحاد سيمثل أعلى درجات التكامل الاقتصادي، وكذلك تطوير التعاون الدفاعي والأمني، بالاضافة الى سياسة خارجية مهمتها صون المصالح المشتركة لدول المجلس.
ومع ابداء حسن النية حول رأي المعارضين لهذا التوجه, نتوقع انه ربما حصل عندهم لبس فيما يتعلق بمعنى الفيدرالية والكونفيدرالية، أو ربما لخشيتهم انه قد يكون موجه ضدهم؛ لإسباب مذهبية على اعتبار ان تأسيسه انما جاء لتقويض مرجعيتهم.ونعتقد ان تلك نظرة قد يغلب عليها الجانب النفسي وليس البعد البنيوي أو القيمي، وسنوضح لاحقا الأسباب المتعددة المتوقعة للدعوة إلى هذا الاتحاد.
ولو نظرنا إلى تعريف الاتحاد الكونفدرالي لوجدنا انه يتكون من دول مستقلة ذات سيادة تفوض بموجب اتفاق مسبق بعض الصلاحيات لهيئة أو هيئات مشتركة لتنسيق سياساتها في عدد من المجالات ,وذلك دون أن يشكل هذا التجمع دولة أو كيانا وإلا أصبح شكلا آخرا يسمى بالفدرالية. ويعد الاتحاد الاوروبي من أبرز الكونفدراليات الحديثة ,فيما تعتبر كندا،وسويسرا،و بلجيكا، فدراليات.
وعادة ما تبدأ مراحل الاتحاد الكونفدرالي بمعاهدة ولكنها غالبا ما تلجأ في وقت لاحق لاعتماد دستور مشترك، ومن ابرز قضايا هذا الاتحاد الدفاع والشؤون الخارجية أو العملة المشتركة.ولو نظرنا الى وضع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لوجدنا انها قريبة من نموذج الاتحاد الكونفدرالي حيث توجد معاهدة انشاء المجلس منذ عام 1981,وهناك درع الجزيرة كنموذج تعاون دفاعي بالاضافة الى وجود مشروع العملة الخليجية الموحدة طور الدراسة والتنفيذ، كما يوجد نوع من التعاون المتقدم على المستوى الخارجي وربما ما يعوق الاتحاد الكونفدرالي الخليجي هو عدم وجود دستور مشترك علاوة على ذلك الاختلاف في طبيعة الحكم وليس الانظمة.
ومن النقاط الرئيسة التي قد تبدد مخاوف المترددين بقبول الكونفدرالية انها تحترم مبدأ السيادة والاستقلالية الدولية لأعضائها وفي نظر القانون الدولي تتشكل عبر اتفاقية لا تعدل إلا بإجماع أعضائها.كما ان هذا الاتحاد لا يعني ان تفقد أية دولة خليجية هويتها الوطنية او تراثها او تاريخها او إمكانياتها وثرواتها.
ويبدو ان هناك ايضا بعض المؤشرات التي ربما ساهمت في وضع تصورات وقناعات لرفض فكرة الاتحاد الكونفدرالي الخليجي لدى البعض ,ومنها ان مجلس التعاون الخليجي لم يحقق التكامل الإقتصادي والإجتماعي والسياسي المطلوب منذ نشأته رغم الثروات والإمكانيات المالية والبشرية الكبيرة التي يمتلكها. ولعل أبرز صور ذلك التقصير هي العملة الموحدة والإتحاد الجمركي والربط الكهربائي والمائي حيث تعد من المشاريع التي ينشدها المواطن الخليجي الا انها تسير بخطى بطيئة ولم ترى النور رغم عمرها الطويل.
ومع ان مجلس التعاون الخليجي يصنف على أنه من أنجح التكتلات في المنطقة أو العالم، إلا أنه في الواقع لم يسلم من بعض الاختلافات حول بعض القضايا سواء على المستوى الثنائي بين دولة او من حيث الاتفاق او الاختلاف حول بعض القضايا او العلاقات او الاتصال لاحدى دوله مع الاطراف الاقليمية او الدولية,بمعنى انه عندما نبحث في سياسات مجلس التعاون نجد انها قد تكون متقاربة في بعض الجوانب ومتباعدة في جوانب أخرى.
وفي مقابل ماسبق، فإن دول الخليج العربية مرت بظروف سياسية واقتصادية محلية واقليمية ودولية صعبة انقسم الشارع العربي حولها ,الا انها لم تمزق المنظومة الخليجية حيث كان لديها مناعة قوية فلم تفرقها تلك الاحداث الطارئة والمؤلمة او تأثر على وحدها كالغزو العراقي للكويت، او ما حصل في البحرين من احداث بل جعلت علاقاتها تتوطد وتزداد يوما بعد يوم. ويبدو ان هذا التوحد الموروث يستمد قوته من علاقات اخوية واسرية على المستويين الشعبي والرسمي في الخليج ومن المنطلقات او العوامل التي دفعت الملك عبدالله الى فكرة الوحدة الخليجية على مستوى الدول كما دفعت الغالبية من الخليجيين الى تقبل هذه الفكرة دون تردد,بالاضافة الى مجموعة من الاسباب الاخرى والرؤى الاستراتيجية المستمدة من التجارب التاريخية، ولعل أبرزها مايلي:
– الرؤية بأن أية دولة بمفردها ستصبح لقمة سائغة لأطماع الدول الإمبريالية سواء في محيطها الإقليمي إو على المستوى الدولي.
فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الجمهوريات التابعة له وكذلك الجمهوريات اليوغسلافية وتحررها واختلال ميزان القوى وميزان المصالح لصالح الولايات المتحدة وانفرادها بقيادة العالم كقطب أوحد، اعتقد الكثير من المحللين ان تلك الجمهوريات لن تفكر بالانضمام لاية دول او تكتلات اخرى لفشل تجربتها الاتحادية الشيوعية. إلا إن أغلب تلك الجمهوريات سرعان ما تهافتت بطلب الانضمام الى منظومة الاتحاد الاوروبي او حلف الناتو لتحافظ على بقائها واستمرارها وأمنها الاجتماعي والسياسي في ظل ما شهده العالم من متغيرات وتحديات افترض عليها الانضواء تحت لواء التكتلات او التحالفات او الاتحادات السياسية او الاقتصادية او العسكرية.
– ان هذه الرؤية ستساهم باستمرار هذا الكيان الخليجي في مواجهة جميع التحديات السياسية والاقتصادية التي قد تترتب على احداث المنطقة العربية والخشية من تداعياتها وإنعكاساتها وعن التأثير عليها والتأثر به. والتخوف من انفلات الوضع العربي ,ومن احتمال عدم قدرة دول الخليج الحفاظ على امنها في حال عدم الاتحاد وانفراد كل دولة بسياستها بمعزل عن دول المنظومة.
– ان الكونفدرالية الخليجية ستجعلها قوة اقتصادية مما سينعكس بالايجاب على شعوبها,وكذلك على نفوذها وتأثيرها الاقليمي والدولي.
– ان الاتحاد قد يحقق توازن في المنطقة على مستوى المصالح وكذلك القوة ضد القوتين الاقليميتين في المنطقة ايران واسرائيل من خلال عاملين:الاول,القوة العسكرية المتمثلة بجيش موحد مدرب على احدث انواع الاسلحة متنوعة المصادر مما يعزز القدرة الدفاعية لهذا الجيش.اما العامل الثاني,هو استغلال عامل النفط كقوة اقتصادية جاذبة للقوى الدولية كحامي للخليج.
– ان الاتحاد سيبدد المخاوف من ايران كقوة اقليمية في ظل تنامي قدراتها العسكرية وتزايد تهديداتها وتدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربية.
وأخيرا، نرى ان دول الخليج تمتلك الكثير من مقومات الوحدة التي تجعلها نموذج اتحاد ناجح كالروابط الجغرافية والاجتماعية والدينية واللغوية المتطابقة وكذلك التشابه في الانظمة السياسية والتركيبة السكانية مما يجعل الاتفاق والوحدة اكثر من الاختلاف ونحن اكثر تجانسا من دول الاتحاد الاوروبي التي توحدت رغم الفوارق فيما بينها.ونعتقد ان هذا الاتحاد لن يرضى عنه ولن يغضب الا الخاسرون وذلك للتحول الذي سيطرأ على المعادلة الاقليمية لصالح دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بنشوء قوة اقتصادية وإجتماعية وسياسية وعسكرية خليجية موحدة ومتضامنة ومتعاونة .ولكن ان ارادت دول مجلس التعاون ان تدعم هذا التوجه فعليها الاتعاض من الربيع العربي وان تدفع الى الاصلاح بجميع مستوياته لتحقق مرادها.
د.عبدالعزيز محمد العجمي
Twitter: @Dr_Abdulaziz71
أضف تعليق