كتاب سبر

“مصنوعات”..’1′

“مصنوعات”..’1′ 
بقلم.. حمد سنان 
لقد أوحى إلى الاستاذ محمد الوشيحي بمناقشتي لتغريداته بمقالي السابق”خلافاً للأصل” أمراً طالما ترددت في الكتابة فيه، وهو صناعة “القادة” ممن قُدر لهم قيادة دول العالم العربي والإسلامي بظروف قدرها لهم من أراد السيطرة على هذا العالم، بأناسه الذين يحملون في صدورهم أبداً دين القدرة على التغيير حين المناسبة، لايختلف في ذلك فاسقهم ومؤمنهم، وكم يُدهش هؤلاء ويحيرهم فُجأة تحول الفاسق بسعيهم إلى مجاهد يقاتلهم.. ولأجل تعطيل هذه القدرة، وتو?قِي هذه الفجأة،قامت صناعة”القادة”. 
لكنّ استصدار حكم في المصنوعية وهي تهمة، يتطلب بحثاً شاقاً في الأدلة لإدانة هذا “البرئ”، وتجربم هذا”البطل”، وكذا إعادة النظر في ظروف الواقعة.. كحدوث ما يستحيل في العادة حدوثه، كأن يهزم “القائد” دولاً مجتمعة، لا يقدر على هزيمة واحدة منها متفرقة.. وكذلك مراعاة أن الحوادث بخصوصها لا تمنع المصنوعية بعمومها في الشطرنج السياسي، كانتصار “القائد” نصراً حقيقياً محدوداً، والاستفادة من ذلك الانتصار للالتفات إليه، والالتفاف حوله، وكالتضحية بحليف للصانع، للحصول على مصالح أكبر من المصنوع… وقبل ذلك كله، يتطلب ذلك انخلاعاً عن النفس.. وما أشده عليها، هذه التي إذا كرهت أو أحبت أمراً أو استقرت على أمر، كرهت أن ترى فيه خلاف ماترى، واشتد عليها أن تتصور فيه ماتتقبله من غيره.
وأريد أن أقرر هنا أنه عند الكلام في “مصنوعية” رجل، لايجدر أن يتبادر أن هذا الرجل جيئَ به من العدم بغير ما ميزة، ثم صُب فيه ماليس منه، وجُعل له مالم يَجعل، إذ لو ذلك كان كذلك لما ميز من غمار الناس، ولما اختير دون غيره!! بل هو رجل توافر فيه ما يلزم  توافره في كل قائد جاء يدعو لقضية، فكان أن كان هذا الذي جاء يدعو له، موافقاً لما يتطلع إليه الصانع، فاختاره لتصنيعه.
وسأسمي هذه المقالات بـ”مصنوعات” مبتدأ بمصطفى كمال حيث هو أول باكورة الإنتاج فيما أعلم، ثم بما يتسنى لي جمعه من براهين الصناعة عن “نُسخه” من غيره. 
فلنفتح الملف:
لاشك أن دولة كالإمبراطورية العثمانية، فتحت أوروبا الشرقية، وطرقت جيوشها أبواب النمسا، إنما هي جار سوء لأوروبا طيلة أربعة قرون.. وأظن ألا أحد قرأ العلاقة بين الدولة العثمانية وأوروبا يماري في ذلك.
فكان من الطبيعي بعد أن استتم لأوروبا استضعافها بعد الحرب العالمية الأولى، أن ترغب”باختزالها” كجارة صغيرة “مفيدة”، بعد أن قامت بتوزيع تركتها على شكل دويلات اختطتها وعقدت على رأس كل ملك عليها تاجاً يحارب دونه، ويكفيها شر “دهمائه”.
لقد دخلت الدولة العثمانية الحرب، لتخرج منها بما أُريد به أن تدخلها، مقطعةَ الأوصال، بسلطان بغير سلطان، وشعوب محبطة تبحث عن مخلص، قد وجدته بعد عناء في بطل غاليبولى الذي “هزم” الحلفاء مجتمعين، وبطل حروب الاستقلال حتى قال فيه شوقي:
        الله أكبر كم في الفتح من عجب        ياخالد الترك جدد خالد العرب
يعني به مصطفى كمال.
وحينما تقاسم الحلفاء “أطراف الرجل المريض” في سايكس بيكو، ظلّت هذه الأطراف ترنوا بأرواحها إلى قلب الخلافة في اسطانبول، ولا يأمن أن تعود هذه الأطراف متحركةً لو عاد هذا القلب ينبض من جديد.. فتلفت الحلفاء بدورهم يبحثون عن “مخلّص”، فوجد الجميع بغيتهم في مصطفى كمال “مخلّصاً” الشعوب العربية والإسلامية وجدت فيه المخلّص للإسلام، والحلفاء وجدوا فيه المخلّص من الإسلام.
يقول بروكلمان في كتابه”تاريخ الشعوب الإسلامية”: “عند ذلك هيأت الدول الحليفة نفسُها الفرصة السانحة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركيا الحديثة”..إهـ
إن الظرف الذي يحيل أن يكون مصطفى كمال بطلاً حقيقياً، وقائداً محضاً، ويؤكّد ما أكّده بروكلمان في مصنوعية الرجل، أن الحلفاء المنتصرين على ألمانيا العظمى، كان بمقدورهم دون شك، وأدنى عناء القضاء على أي تحرك لـ”خالد الترك” لو أراد أن يبعث لهم من جديد، من قاموا هم أنفسهم بقتله، وتقطيع أطرافه، وحرصوا جميعاً على دفنه.
لقد ضحى الحلفاء باليونان حليفهم الأضعف وامتنعوا عن مساعدته، ليهزمها ذئب الأناضول في معارك الاستقلال في أزمير وسقاريا وأفيون، ويصنعوا الحليف الأصلح الممهد لوجود تركيا اللاعثمانية.
يقول فِشر في كتابه “تاريخ أوروبا في العصر الحديث”: “ولهذا تُرك اليونانيون يجابهون بمفردهم العاصفة”.إهـ.
أي بعد أن تخلى عنهم الحلفاء في حربهم مع الأتراك في معارك الاستقلال عام 1922 بقيادة أتاتورك، نعم الحلفاء أنفسهم الذين أنذروا الأتراك بعدم التعرض لليونانيين حينما قاموا باحتلال  أزمير عام 1919.
يقول مصطفى كمال في كتابه “الخطاب العظيم”: “….وقد بلغونا هذا القرار مساء 14 مايو، وحذرونا من مقاومة اليونان أي تحذير، معتبرين ذلك مقاومة جميع الحلفاء”..إهـ
هذه هي أحاجي الصنعة !! حتى إذا حاز مصطفى كمال لقب “الغازي” من الترك، و”خالد العرب”من العرب بعد دحره اليونان في حروب الاستقلال، ورفعه الجميع فوق الشك، اتخذ ذلك ردءاً يدفع به كل شك حول غايته.
ويقول بروكلمان: “لقد وطّن مصطفى كمال نفسه أن يسير بالدولة التي أنشأها في طريق الحضارة الأوروبية، وهي طريق تقتضي السائر فيها ألا يقف ليلقي أيما نظرة إلى الماضي الإسلامي، لأن مثل هذا النظر خليق أن يعوق صاحبه عن بلوغ الغاية..”إهـ.
وقد شرّع مصطفى كمال فعلاً بما يبلغ به “بلوغ الغاية” باستصدار قانون بإلغاء الخلافة من الجمعية الوطنية عام 1923، ثم لضمان استكمال هذا القانون استتبعه بقوانين منها:
  • قانون لبس القبعة الغربية عام 1925
  • قانون منع الأذان باللغة العربية عام 1926
  • قانون حظر الحجاب عام 1926
  • قانون مساواة الرجل بالمرأة في الميراث عام 1926
  • قانون إباحة زواج الأخ من الأخت بالرضاع عام 1926
  • قانون حظر العمل بالحروف العربية عام 1928
وقد طبقت هذه القوانين بالتهديد لمخالفها بالمثول أمام محاكم الاستقلال، وماأدراك مامحاكم الاستقلال.. يقول آرمسترونغ صديق أتاتورك الشخصي في كتابه “الذئب الأغبر” ص214: “وأرسل محاكم الاستقلال إلى الأقاليم لتحكم على مئات “المتمردين” – والتنصيص من الكاتب – بالشنق والرمي بالرصاص والسجن، فسارع كل تركي إلى شراء القبعة وارتدائها، وحين لم يجد الأهلون في إحدى القرى قبعات كافية هاجموا متجراً لبيع قبعات النساء يملكه آرمني، فابتاعوا محتوياته وارتدوها بريشها وأشرطتها الملونة.. وبذلك قضى مصطفى كمال على الأسس والمظاهر الدينية للدولة والشعب بأكملها، وإذ فرغ الغازي من الهدم، بدأ يشرع في البناء، فاستدعى الخبراء والمشرعين الأجانب..”.إهـ
لقد سار مصطفى كمال بتركيا سيرة أوروبا الحديثة التي”تبنته”، فما أسلم الروح حتى أسلمها لها لقيطةً، بعدما كانت سليلة بايزيد ومراد ومحمد الفاتح وسليمان القانوني، ثم سار بها بسيرته مَن بعده من حزبه، حتى إذا جاء عدنان مندريس يريد إثبات نسبها، ويرجعها إلى أمها وأبيها، كان جزاؤه الشنق !! نعم.. شنقاً حتى الموت في حكمٍ غير مسبوق بحق رئيس مجلس وزراء تركيا الديمقراطية “الحديثة”، ذلك بأنه أعاد إلى مآذنها الأذان بالعربية، بعدما “هدمه” الغازي من بين ما هدم ليبني تركيا “المفيدة”.
فإلى لقاء مع “قائد” آخر.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.