كتاب سبر

اركض برجلك.. أبا يوسف

أجواء عزائية لا إرادية تحيط عادة بأي منزل يصاب أحد أفراده بالمرض الخبيث (السرطان)، وأشهد أنه اسم على مسمى.. من حيث النتائج والحالة، لكنه في المجمل قضاء الله الذي لا مناص منه، ولا احتجاج عليه.
أما أبويوسف فهو شقيقي الإعلامي (حسن المسعودي).. الذي حظي باحترام ومحبة، كل من عرفه وعمل أو تعامل معه.
وليس لأبي يوسف حكاية غريبة ولا عجيبة.. فكل مافي الأمر أنه جرى في الحياة طولًا وعرضًا، وملأ حياته علمًا وعملًا.. لكنه فجأة توقّف أمام محطة صعبة لايستطيع بشر إلا أن يسلم أمره فيها إلا لله.
تلك المحطة هي “السرطان”.. وقد اختار أبو يوسف أن لا يوسّع دائرة العارفين بمرضه، حتى لا يثير أحزانهم من جهة، ومن جهة أخرى حتى يحصّن نفسه من ردود الفعل السلبية التي قد تؤثّر على نفسيته.. وله الحق في ذلك،  فقد وقفت بنفسي على بعض تلك الردود التي يخشاها، عندما تهمس بإذن أحدهم عن الحالة نتيجة إلحاحه بالسؤال، وما إن يسمع الخبر.. حتى يرتفع صوته محوقلًا ومهللًا ومكبرًا، يسأل الله حسن الخاتمة، ويردد بصوت مرعوب: إنا لله وإنا إليه راجعون.. حتى تظن أنه سيأتيك بعد قليل بالحنوط والكفن.. لأنك ستذهب إلى أخيك لتجده قد فارق الحياة! وهذه النوعية من البشر تثير الرعب.. وآلامها أشد من آلام المرض.
فوجئ بعضنا بحالة أخي حسن، وفجع بعضنا به، ورضي بعضنا.. أما هو فكان مسلمًا راضيًا، بدأ بصمت وهدوء يأخذ يوميًا وجبة الإشعاع الصباحية، ثم المسائية، وأسبوعيًا جرعة الكيماوي.. حتى نحل وهزل، وابتعد عن الناس.. ولم تعد تقدر قدماه على حمله.. ولم يعد بمقدوره حتى الرد على الهاتف.. فأصبحت محط سؤال أحبته وأصدقائه وزملائه.
وبين يوم وآخر أقضي معه وقتًا قصيرًا لعلّي أواسي وحدته، لكنه حقًا لم يكن وحيدًا، كان هزيل الجسم، قوي القلب، خائر القوى الجسمانية، حاضر القوى العقلية.. كنت أتمثّل وأنا أجلس بقربه  وأرى هزاله حالة أيوب عليه السلام.. الذي تساقطت عافيته شيئًا فشيئًا وانعزل عن الناس سنين طوالاً، حتى جاء الفرج بالأمر العظيم: “اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب”.
وضرب بقدمه  الأرض، فتفجّر الماء الزلال، ماء الشفاء والحياة، بعد ظمأ طويل، وصبر نبيل. وبعد أشهر من الغياب والتعب وألم الكيماوي الرهيب، هاهي الحياة بدأت تدب في أوصال أبي يوسف.. عاد إلى الاتصال، وبدأ يخطو إلى الحياة شيئًا فشيئًا.. وقد هزم المرض الخبيث.. بكل صلابة.
ولا غرابة في ذلك.. فقد سبق أن قاوم (حسن) المرض الخبيث الآخر  مع كل أعوانه من المتسلطين الجائرين، المتعنصرين.. ذلك هو المرض القديم: (سرطان الهوية).. ويا له من علة باطنية خبيثة.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.