كتاب سبر

الديمقراطية.. وخطاب المشاركين بالانتخابات

بقرار التحالف الوطني الديموقراطي المشاركة في الانتخابات المقبلة لمجلس الأمة بعد مقاطعته “السياسية” لسابقتها والذي اعتبرها “رسالة احتجاجية سلمية على تعديل آلية التصويت”، إثر اتخاذ سلطة الحكم ممثلة بأمير البلاد “قرار التعديل بمعزل عن الإرادة الشعبية الممثلة في مجلس الأمة”.. إلا أن التحالف، وبعد حكم المحكمة الدستورية بتحصين الصوت الواحد، عاد ليعلن بأنه سيشارك. فكانت المشاركة موقفا مناقضا للموقف الأول المقاطع، باعتبار أن “الإرادة الشعبية” لا تزال معزولة ومهمشة، ولم تتم معالجة هذه الركيزة الديموقراطية، وتم التعويض عن التهميش باللجوء إلى المحكمة الدستورية، والذي كان حكمها مثار جدل كبير بين الخبراء الدستوريين، ما دعا الكثيرين أن يوجهوا التساؤل التالي: هل مشاركة التحالف الوطني في الانتخابات، بعد استناده في ذلك إلى حكم المحكمة الدستورية، يخدم سيناريو تعزيز الإرادة الشعبية، ومن ثم يساهم في تطوير آليات العمل الديموقراطي في الكويت عن طريق تبني مجموعة من القوانين في مجلس الأمة تصب في مشروع الإصلاح السياسي؟.
اعتبر التحالف الوطني الديمقراطي أن موافقته على المشاركة بالانتخابات المقبلة، جاءت بعد أن أنهى حكم المحكمة الدستورية الجدل حول مرسوم الصوت الواحد، وأكد في بيان أصدره حول ذلك أن مشاركته هي مسعى  نحو “إقرار نظام انتخابي أكثر تقدما وتطورا وفق القوائم النسبية يحقق التطلعات الديموقراطية السليمة، ويقضي على التصويت القائم على المبدأ الطائفي والانتماء القبلي والفئوي”. وركز على ضرورة الرضوخ لحكم المحكمة الدستورية لأنه “وضع نهاية لجدل دستوري حول مراسيم الضرورة بشكل عام ومرسوم تعديل النظام الانتخابي الى الصوت الواحد بشكل خاص، ليسجل القضاء الكويتي انتصارا تاريخيا ببسط رقابته القضائية على مراسيم الضرورة”. لكن التحالف لم يشر في بيانه إلى الأسباب التي دعته إلى مقاطعة الانتخابات السابقة التي جرت على أساس الصوت الواحد والتي أشار خلالها إلى “عزل الإرادة الشعبية”. فهذا العزل أو التهميش كان خارج أجندة البيان، ما يدلل على أن حكم المحكمة الدستورية – بالنسبة للتحالف – يفوق في أهميته مسألة عزل إرادة الشعب. فلم يحتج التحالف على تهميش الإرادة الشعبية حينما ورد ذلك في أحكام المحكمة الدستورية، لكنه احتج على ذلك حينما تعلق بقرارات السلطة السياسية. كما لا يربط التحالف بين عزل تلك الإرادة وبين أحد الأسس التي تستند إليها العملية الديموقراطية وهو احترام حق أكثرية الشعب، وبالذات حينما يضيع هذا الحق في ثنايا حكم المحكمة الدستورية. 
إذا كانت “إحدى سمات المجتمعات الديموقراطية” حسب بيان التحالف هي “احترام أحكام القضاء”، فإن الأسبق والأجدر أن تكون إحدى سماتها احترام الإرادة الشعبية. فالتحالف يعلم بأن اللجوء إلى المحكمة الدستورية للأخذ برأيها في مسألة “دستورية مرسوم الصوت الواحد” ثم تحصينه، جرى على القاعدة الواضحة “ما بني على باطل فهو باطل”. فاللجوء بدأ انطلاقا من عزل وتهميش إرادة الشعب، ثم تمت الاستعانة بأحكام المحكمة الدستورية لتهميش هذا التهميش، أي لـ”دسترة” تهميش إرادة الشعب. وعليه لا يجوز التعويل على حكم تحصين مرسوم الصوت الواحد والإشادة به على اعتبار أنه مكسب للثقافة الديموقراطية. فأحكام المحكمة الدستورية قد تتوافق مع الدستور، لكن ليس بالضرورة أن تتوافق مع الثقافة الديموقراطية. قد تكون الأحكام خدمت جانبا مهما من الرقابة، والمتمثلة بالرقابة على مراسيم الضرورة الصادرة من رأس السلطة السياسية، حتى لو شابها الجدل السياسي واللغط القانوني، لكنها بالتأكيد زادت من عزلة وتهميش الإرادة الشعبية. 
إن مشاركة التحالف في الانتخابات تأتي في إطار “أن المرحلة المقبلة تتطلب عملا وطنيا حقيقيا ينتشل البلاد من أزمتها العميقة ويعيد قطار الديموقراطية الى السكة بعد أن انحرف عنها”. هل يستطيع التحالف أن يؤشر إلى مرحلة معينة من التاريخ السياسي للكويت كان قطار الديموقراطية فيها على السكة، لكي يأتي الآن ويعلن بأنه بصدد العمل على تعديل السكة لكي يستطيع قطار الديموقراطية مجددا السير فيها بصورة طبيعية؟ لقد وضعت السلطة في طريق الحياة الديموقراطية، البرلمانية، ومنذ عقود، العديد من العراقيل، بغية التأثير على مخرجاتها، حتى وصل الأمر إلى تزوير الانتخابات والسعي لإلغاء الدستور. كيف يمكن في ظل هذه العلاقة الملتبسة بين السلطة وبين الحياة الديموقراطية، أن يتم الوثوق بمساعي تطوير الديموقراطية من خلال محاولة إقرار جملة من القوانين التي تصب في إطار الإصلاح السياسي؟ ففي ظل الدستور الكويتي الحاث على نوع خاص ومميز من الديموقراطية، توجد العديد من المواد الدستورية التي تشجع الإطار الديموقراطي الجمعي الذي تنتهي القرارات فيه لصالح الأغلبية كما هو معمول به في مختلف الديموقراطيات حول العالم، لكن، في المقابل، هناك مواد دستورية تدفع بالسلطة الرئاسية للهيمنة على السلطة البرلمانية ما يؤدي إلى رضوخ الأكثرية للفرد (وفي حالات أخرى كانت قرارات الأكثرية محرَجة للسلطة، فتمّت الاستعانة بالحلول الداعية إلى إلغاء الدستور).
 إذاً، تختلط في نظامنا السياسي سلطتان، السلطة البرلمانية والسلطة الرئاسية، في ظل الغلبة الدائمة للسلطة الرئاسية وبقوة القانون ومنذ عقود قاربت الخمسة. فهل دستور كُتب قبل عقود وفي ظروف فرضت غلبة جانب على جانب آخر في ظل علاقة ملتبسة بمفهوم الديموقراطية وما ينبني على ذلك من صراع سياسي ولغط قانوني، هل ذلك يخدم فكرة تطوير الديموقراطية؟ هل يحتاج التحالف الوطني الديموقراطي إلى عقود خمسة أخرى لكي يتحقق له الإثبات بصعوبة حدوث إصلاح سياسي في ظل هذا الوضع الدستوري وهذه الديموقراطية العرجاء؟ هل هناك معنى لقيمة الديموقراطية في ظل صراع سياسي دستوري تصب مخرجاته خارج إطار القرارات الجمعية؟ كيف يمكن وصف العملية السياسية بـ”الديموقراطية” فيما تنتهي مخرجاتها بعيدا عمّا تريده الأغلبية؟.
مشكلة الممارسة الديموقراطية في الكويت أنها تنتهي إلى سيطرة القرارات الفردية وبالوسائل الدستورية. وهذه الإرادة الفردية، الدستورية، التي تعكس صورة السلطة السياسية، لا يمكن إخضاعها للتداول الديموقراطي إذا ما وُضعت في مقابل إرادة الشعب. 
وفي حين أن السلطة هي التي تتحكم في العملية السياسية، إذن كيف يمكن الحديث عن امكانية تحقيق إصلاح سياسي يناهض ما تريده هي؟ لذلك، لن تقدم السلطة على خطوة الاصلاح من دون وجود دافع لذلك، ولن يستطيع البرلمان تحقيق الإصلاح في ظل وجود العراقيل الدستورية، فيبقى الضغط السياسي السلمي للشارع هو الحل الذي من شأنه أن يدفع الأمور إلى الإصلاح. فما تسعى إليه السلطة، وقالته بوضوح مرات ومرات، والبعض لا يريد أن يسمع، هو في استمرار الوضع السياسي الذي يحقق لها السيطرة، وأن تتحكم بمفاصل البرلمان وإلاّ. فالمشاركة في انتخابات تنتفي خلالها احتمالات تطور الديموقراطية، وعودة روح المناكفة السياسية دون نتائج مرجوة على صعيد الإصلاح السياسي، استنادا إلى تجربة الخمسين سنة، هي نجاح يحسب لمعارضي الإصلاح.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.