عندما سئل أردوغان في أحد المؤتمرات كيف استطاع انتشال تركيا من مستنقع التدهور الاقتصادي والنهوض بها في فترة زمنية قصيرة أجاب بكل ثقة: ” لأني لم أسرق “. إجابة موجزة تحمل في طياتها فلسفة الرجل في إدارة شئون بلاد استشرى الفساد فيها وضرب في أطنابها عقودا من الزمن . إنها هي ذات الفلسفة التي قادت حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان من نصر إلى نصر ومن تفوق إلى آخر ، كان آخرها اكتساح انتخابات البلدية التي جرت مؤخرا ، حاصدا ما يقارب نصف أصوات الناخبين. وتكمن أهمية هذا الفوز في أنه مؤشر على شعبية إردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. وقد أحدث هذا الفوز الكبير صدى كبيرا ولقي ترحابا واسعا بين الأوساط الإسلامية والشعبية إقليميا ودوليا ، بينما خيمت أجواء الصدمة وخيبة الأمل على خصوم أردوغان داخليا وخارجيا ، فمن هو أردوغان؟
نشأ رجب طيب أردوغان – وتعني الفتى الشجاع باللغة التركية – في أسرة فقيرة الحال ، حيث أمضي سنين طفولته في بيع السميط والبطيخ في أزقة مدينة طرابزون على ضفاف البحر الأسود ليعيل أسرته ويدخر المتبقي لسداد رسوم التعليم. وقد انخرط أردوغان في العمل السياسي مبكرا وهو دون الخامسة عشرة ، وكان لنبوغه وصرامة شخصيته واعتدال منهجه أثرا كبيرا في فوزه عام 1994 بمنصب عمدة أسطنبول العاصمة التاريخية وكبرى المدن التركية. وخلال هذه الفترة عمل أردوغان جاهدا على تطوير البنية التحتية للمدينة بشكل جذري وتحويلها إلى معلم سياحي عالمي . كما حرص على توفير الرعايا الصحية والاجتماعية المتميزة لسكانها ورفع أجور العمال ، مما أكسبه شعبية كبيرة ليس فقط في إسطنبول بل في عموم تركيا . وبسبب اقتباسه لأبيات ذات مدلول إسلامي في خطاب جماهيري اتهمته السلطات بالتحريض على الكراهية الدينية وأودع السجن ومنع من العمل في الوظائف الحكومية علاوة على الترشيح في الانتخابات العامة. لم تفت هذه القضية في عضد أردوغان ولم تثنه عن مواصلة طموحه السياسي ، فقد شرع بعد خروجه من السجن مع بعض رفاقه في تأسيس حزب العدالة والتنمية وخاض به الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2002 محققا فوزا تاريخيا ليتولى أردوغان رئاسة الحكومة وزميله عبدالله جول رئاسة الجمهورية. أولى أردوغان ملفات الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي أهمية قصوى , وسعى لمعالجة الخلل وأوجه القصور فيها ، متصديا بحزم لشبكات ورموز الفساد المهيمنة والتي عانت منها تركيا ردحا من الزمن في ظل الحكومات العلمانية المتعاقبة. ولم تقتصر شعبية أردوغان على الشأن المحلي بل تخطت محيط تركيا لتشمل جل العالم العربي والإسلامي. فقد كان لمواقفه المؤيدة والداعمة لشعوب ثورات الربيع العربي الأثر البالغ في بروز نجمه عاليا ليعانق سماء الزعامة الإسلامية . وبالرغم من سيل الـمؤامرات المحاكة والاضطرابات المصطنعة والإشاعات المغرضة من خصومه في الداخل والخارج إلا أن أردوغان استطاع الصمود أمامها. وبإمكاني القول أن نجاح أردوغان بالبقاء على رأس السلطة الحاكمة طيلة هذه المدة يعزى لعدة عوامل أبرزها:
محافظته على أسس النظام الجمهوري العلماني والإرث الأتاتوركي ، على الأقل في هذه المرحلة
تجنب الصدام مع المؤسسة العسكرية في بادئ الأمر ومن ثم تحييدها
رفع المستوى المعيشي للفرد التركي
التدرج في إضفاء الصبغة الإسلامية على قوانين الدولة ومؤسساتها
دعم البنية التحتية للدولة بمشاريع إنشائية ضخمة لم تشهدها تركيا من قبل
المحافظة على علاقات وشيجة مع الطبقات العاملة والمتدينة والتي تفوق عدديا النخب العلمانية واللبرالية
توسيع قاعدة الحزب من خلال استقطاب كوادر جديدة
استثمار التناحر الدائر بين الأحزاب المعارضة وإخفاقها في تشكيل جبهة مناوءة لحكومته
إن انتهاج أردوغان لمبدأ النزاهة والشفافية مقرونا بالعمل الجاد مكنه من خلق قاعدة جماهيرية عريضة موالية لحزب العدالة والتنمية ، لتكون الدرع الواقي الذي لن يستطيع خصومه اختراقه ، على الأقل في المنظور القريب.
د. جاسم الفهاد
@dralfahhad
أضف تعليق