حري بمن يخاطبهم هذا المقال أن يتذكروا عبارة الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط عند محاكمته ويستوعبوا معانيها الخالدة ” أحبكم وأجلكم يارجال أثينا ولكنني أحب الحقيقة اكثر “، في أجواء تلك العبارة ثمة ما يدفعنا إلى تناول ما جرى خلال الفترة الماضية تحديدا منذ نهاية شهر يناير عام 2006، حتى يومنا هذا وقراءة كل تلك المفاصل والالتواءات التي مررنا بها، والتمعن بأدق مضامينها، فمن يعرف ربما تكون هناك فرصة لإعادة صياغة المشهد ليتوافق مع مفردات سقراط.
تطرقت في حزمة من المقالات نشرت في جريدة القدس العربي الصادرة في لندن إلى طبيعة الصراع بين أجنحة الأسرة الحاكمة في البلاد وتداعياته على المؤسسات الدستورية، وقدرت من خلالها أن ذلك الصراع كان يمكن أن يكون طبيعيا لو بقي في إطار التنافس التقليدي لكنه لم يفعل، بل أصبح أكثر حدة وتجاوز تفاهمات “الجنتلمان” غير المباشرة بين الأجنحة المختلفة، الأمر الذي أربك الساحة وجرها إلى نفق مظلم.
لا بد من الإشارة قبل تناول ماجرى إلى جهود سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد في الحد من تأثيرات ذلك الصراع بين تلك الأجنحة والحيلولة دون تمدده خارج إطار الأسرة الحاكمة لكن تلك الجهود جوبهت بعراقيل كبيرة أضعفت من قدرتها على تحقيق أهدافها، وأوحت للحكومة الحالية رغم ما بها من ضعف بنيوي باتخاذ جملة من القرارات التي لاتخلو من “تعسف” في إسقاط الجنسية عن بعض المواطنين اعتقادا منها أنها من خلال تلك القرارات تنقذ البلاد لكن أخشى أن ما يحدث سيغرق البلاد في مستنقع.
منذ ذلك التاريخ كان هناك من “يحرّض” وكان هناك أيضا من “يحذر” من الانحياز لهذا الطرف أو ذاك في لعبة الصراع خوفاً على التجربة الديمقراطية والمؤسسات التي جسدتها تلك التجربة اليتيمة في منطقة الخليج، وخوفا من انزلاقات يمكن أن تمس أجواء الاستقرار المتميزة، لكن دون جدوى فلسبب أو لآخر كان هناك تمترس وتخندق بين كافة الفرقاء خلف كل جناح من أجنحة الأسرة الحاكمة المتصارعة على أمل أن يحقق كل طرف ما يريد من خلال وصول الجناح الذي يدعمه إلى المواقع المتقدمة دون أن يضع أولئك في حسبانهم حجم الخسائر التي يتكبدها البلد إلى حد الوقت الذي انفجر فيه الوضع بالتطاول على سمو الأمير والتمرد على الخيوط التي حددها الدستور لتنظيم النشاط السياسي والعمل العام بكافة تفاصيله، وهي فعلا بمثابة الخطوط الحمراء.
من أجل إنعاش ذاكرة القارئ قليلا لفهم السياق التاريخي لهذا المقال يجدر بنا التطرق إلى التطورات التي أفضت إلى الحالة السائدة، فقد كانت الأمور على خير ما يرام حتى ولو كان ظاهريا، وكان البرلمان يعمل كما يجب والحكومة كذلك برئيسها الجديد، ولا بأس من بعض “الشطحات” في أوساط السلطتين لكن في الإطار العام تسير الأمور وفق ما يجب أن تكون عليه، حتى أن هناك إشادة بأجواء الحكومة استنادا إلى أن لديها “توجهات إصلاحية” ينبغي دعمها.
هناك ثلاث محطات ينبغي التوقف عندها دون التعمق بتفاصيلها كثيرا والهدف خلق ظروف موضوعية لتناول اللقاء الذي جمع سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد مع مجموعة من المشايخ والدعاة، فقد كشف ذلك اللقاء عن مؤشرات غاية في الأهمية، أبرز تلك المحطات الإصرار على تعديل النظام الانتخابي بتحريض من بعض أقطاب الأسرة والمبررات التي سيقت من أجل تمرير هذا المشروع ورد الفعل في أوساط المعنيين في الحكومة ممن رأوا فيه تحركا دون مبرر، وقد نقل عن د. أحمد الخطيب النائب السابق في مجلس الأمة ان مسؤولا كبيرا التقاه في مناسبة اجتماعية وسأله السؤال التالي “لماذا الصمت على تقسيمة الدوائر الانتخابية منذ عام 1981، رغم أن ذلك التعديل كان بمرسوم ضرورة ومع ذلك شاركتم في الانتخابات واليوم تطرح بهذه الحدة؟!”.
المحطة الثانية هي إقتحام قاعة عبدالله السالم والبقاء فيها في تحدٍ “عقيم” لامبرر له، خاصة في دولة تتوفر فيها القنوات التي تسمح لأي شخص أن يعبر عما يريد دون أن يمس أي من الثوابت الدستورية والقانونية، وتداعيات ما جرى على الصعيد الشعبي ومن بينها تسويق فكرة النموذج السئ في العمل العام، فيما تتعلق المحطة الثالثة بالخطاب المكتوب الذي قرأه النائب السابق مسلم البراك في ساحة الإرادة والأثر الذي نتج عنه.
المحطة الأولى كان عليها إجماع شعبي رغم أن الآلية التي أقرت بها كانت محل نقاش وجدل بين مكونات ذلك التحرك، إذ رأي الكثير من المراقبين أنها لم تحظ بفترة كافية من الحوار تفضي إلى حل وسط، بل كانت كل الأطراف المتورطة في حالة استنفار شامل غير مفهوم، وهناك من يقول إن تلك الأوضاع خلقت حالة من النفور الشعبي ظهر جليا في المحطتين الآخريين.
سمو الأمير في لقائه بالمشايخ والدعاة قال ان كل ذلك الضجيج إنما هو بسبب تقليص عدد الأصوات الانتخابية إلى صوت واحد بدلا من أربعة ” وأنا أقول الصيحة هذه كلها على الصوت .. الصوت الواحد ترى والله ما فيه غيره الصوت الواحد اللي خلا الدنيا .. فيه دولة ما فيها صوت واحد كل دولة فيها صوت واحد وقادرين .. تقدر تخدم بلدك في كل محل مو الكرسي اللي يخدم ..” وقد نشب حول ذلك الحديث لغط كبير، وجرى تناوله في أكثر من منتدى لأنه حمل في طياته عتبا على بعض أعضاء ما يسمى كتلة الأغلبية البرلمانية، وكان في عبارات العتب تلك مؤشرات على فرصة لإعادة مراجعة كل المرحلة السابقة وتبني خيارات أكثر تفاهما مع التطورات الجديدة، لكن لم يكن هناك من يلتقطها.
المفاجأة الأخرى التي يمكن ربطها بتلك العبارت هي أنني سمعت نفس الكلام من النائب السابق مسلم البراك في إحدى المناسبات الاجتماعية، وكأنما هناك تناغم دون تنسيق بالطبع، عندما سأله أحد الحضور عن المخرج من الأجواء السائدة ورد عليه ” المخرج بعودة الأصوات الأربعة ” ما يعني أن هناك اتفاقاً ضمنياً أن القضية ليست سوى قضية انتخابية ، إذا كان هذا الوضع من السهولة البحث عن خيارات أخرى تنزع فتيل الأزمة ما دام فهم الجميع أن القضية قضية “كراسي”.
هناك مسؤولية سياسية تتحملها قوى رئيسية أبرزها الأسرة الحاكمة التي خرجت عن إطار التنافس إلى فضاء أوسع أضر بهيبتها وأضعف من موقفها تجاه الملفات الأخرى، وربما هذا ما أغضب سمو الأمير، فيما تتحمل حركتا العمل الشعبي والدستورية ( حدس ) اللتين حاولتا استخدام هذا الصراع لتحسين ظروفهما التفاوضية على حساب بقية الملفات، لكنهما أخفقتا وثمرة إخفاقهما مأساة “الجناسي”، ثم التحالف الإسلامي والتجمع الإسلامي السلفي والمنبر الديمقراطي عندما اكتفى بالثلاثة بالتفرج على ما يجري دون أن يطرح من جانبهم أية مبادرة تحول دون الوصول إلى الحالة الراهنة.
هناك فرصة تلوح في الأفق، ربما تكون مؤلمة ومحرجة لكل الأطراف لكن تلك الفرصة بحاجة إلى تضحيات وتنازلات وبحاجة أيضا إلى التوقف عن المكابرة وفهم حقيقة واحدة أن المشاركة في العملية الانتخابية هي القناة المتوفرة للتأثير على المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ولا يمكن لأي طرف مهما كان وزنه أن يكون له أي تأثير في أي حدث ما لم يكن جزءا من العملية الانتخابية حتى ولو كانت بالصوت الواحد.
أضف تعليق