يشيع بين نقاد الشعر الشعبي وشعرائه أن بحر “الصْخَري” هو “البحر الوافر” الفصيح بعد دخول زحاف العَصْب (تسكين الخامس المتحرك) على جميع تفعيلاته، وهذا تصوّر خاطئ؛ إذ إن تفعيلة الوافر (مفاعلَتن) //5///5 بعد العصْب تصبح: مفاعلْتن //5/5/5 ومفاعلْتن هي تفعيلة الهزج (مفاعيلن) //5/5/5، ولا يصح حمل قصيدة مبنية كلها من (مفاعيلن) على بحر الوافر المعصوب؛ لأن مفاعيلن أصل في الهزج وفرعٌ في الوافر بسبب زحاف العصب العارض، ولا يُحمل الهزج على الوافر إلا إذا وُجدتْ تفعيلة واحدة –على الأقل- غير معصوبة وإلا فهو هزج. والشعر الشعبي لا تدور فيه تفعيلة الوافر إطلاقا، لأن الكلام العامي يميل إلى التخفيف، فيستحيل أن تجد فيه ثلاث متحركات متتالية، لذلك لا وجود لبحرَي الكامل والوافر في الشعر الشعبي. وأظن أن هناك سبباً آخرَ جعلهم يحملون الصخري على الوافر؛ وهو بُنية التفعيلة الأخيرة في كلا الشطرين (فعولن) التي تشابه تفعيلة الوافر المقطوفة؛ والقطف في الوافر: اجتماع علة الحذف (إسقاط السبب الخفيف من آخر التفعيلة) مع زحاف العصب (تسكين الخامس المتحرك)؛ فتتحول مفاعلَتن إلى مفاعلْ //5/5 التي تُنقل إلى فعولن. وكأنَّ من ظن هذا الظن قد نسي أن الهزج يدخل عليه “الحذف” أيضا؛ فتصبح مفاعيلن: مفاعي //5/5 التي تُنقل هي الأخرى إلى فعولن. والحذف في الهزج أخفُّ من القطف في الوافر؛ لأن الحذفَ تغييرٌ واحدٌ والقطف تغييران؛ والحمْل على ما فيه تغيير واحد أولى من الحمل على ما فيه تغييران!
وبحر الهزجٌ لم يُنظَمْ عليه في الفصيح إلا مجزوءا، أي بتفعيلتين في كل شطر: مفاعيلن مفاعيلن ** مفاعيلن مفاعيلن، ومن أمثلته في الفصيح قول أبي فراس الحمْداني:
عرفتُ الشرَّ لا للشَّرِّ
لكنْ لتوقِّيهِ
ومن لم يعرفِ الشرَّ
من الخيرِ يقعْ فيهِ
وقد نُظِم على مجزوء الهزج في الشعر الشعبي بقلة، ومنه القصيدة التي غناها المطرب الكويتي محمد المسباح:
حمامٍ شاقني فنّهْ ** أنا أطرب كل ما غنّى
أما الهزج التام فقد غاب في الشعر الفصيح وحضر في الشعر الشعبي كما تصوّره الخليل بن أحمد الفراهيدي في دائرة المجتلب، وله وزنان: الأول تام سالم:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ** مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
وهذا قليل، ومثاله أغنية محمد عبده الشهيرة:
مساء الخير والإحساس والطيبة ** مساءٍ ما يليق إلا بأحبابي
والآخر: تام محذوف، أي دخلت عليه علة الحذف (حذف آخر حرفين من مفاعيلن) من آخر تفعيلة في كلا الشطرين:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعي ** مفاعيلن مفاعيلن مفاعي، وهو ما يُعرف بالصْخَري؛ وأمثلته كثيرة، منها قول السديري:
حياتي كلها صبر وجلادة .. وغيري عايشٍ عيشة سعادة
حياتيكلـ / لهاصبرو / جلادة ** وغيريـعا / يشنْعيْشتْ / سعادة
والصخري أجمل أشكال الهزج وألينها، ولإيقاعه قابلية لحمل المعاني في حالتي الفرح والحزن، ويستوعب كل أغراض الشعر، وينقاد لكل الألحان، لذلك كثر في الشعر الشعبي. ولا يجوز حمله على الوافر بتاتاً، إلا إذا جاز حمل “الرجز” على الكامل المُضمَر!
كما أن للهزج في الشعر الشعبي وزناً مُثمَّنا، أي مكون من ثماني تفعيلات:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ** مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
وهو ما يسميه بعضهم بالشيباني أو اللويحاني، ومنه قصيدة عبدالله الفيصل:
ألا واشيب عيني يوم قالوا لي فمان الله ** تحققت إنهم من عقب لاماهم مقفيني
وهذا كثير الدوران في الشعر الشعبي، وهو وزن مترهّل يكثر فيه الحشو، وإيقاعه سخيف، ولا يصلح إلا لسرد القصص أو المحاورة.
بقلم.. عبدالله غليس
أضف تعليق