المقال الثاني ضمن سلسلة مقالات يكتبها الزميل مبارك الجري تتناول “مراجعات راشد الغنوشي” وسوف تنشر تباعاً في
انتقل راشد الغنوشي إلى سوريا عام 1964 م لإكمال دراسته الجامعية ، وفي هذه الفترة كان تراث الليبرالية و مظاهرها السياسية واضحاً على سلوك وفكر السوريين ، لأن حكم البعث مازال في بدايته، وقد غير الغنوشي تخصصه الجامعي من الزراعة إلى الفلسفة التي ارتبطت بنشأته التعليمية منذ مرحلة الثانوية ، وساهم هذا الاختيار في تشكيل النسق الفكري الذي حدد ورتب المسائل السياسية و الاجتماعية و الثقافية لدى الغنوشي.
و خلال أربع سنوات دراسية في سوريا ، شهد الغنوشي عدة قضايا أهمها القضية الفلسطينية و موقعها بين مختلف الأفكار و التوجهات و التيارات الطلابية . حيث كانت الجامعة في ذلك الوقت تمثل بؤرة التفاعلات السياسية و التعبيرات الفكرية إزاء القضية الفلسطينية . و يذكر الغنوشي أن الصراع بين التيار العلماني و الإسلامي كان شرساً و الموقف من الاحتلال الصهيوني كان متنوعاً ، و بالنسبة للإسلاميين كانوا يؤمنون بأن مقاومة المحتل لن تنجح إلا عن طريق الحل الإسلامي أي بإقامة الدولة الإسلامية الجامعة ، بينما يرى المكون العلماني أن الوحدة العربية و إقامة المجتمع الاشتراكي و مقاومة الأنظمة الرجعية هي السبيل الوحيد لطرد المحتل الصهيوني . ويبدو أن صراع هذه الاطروحات و تداعياتها الإجتماعية والسياسية ، وعدم انتاج موقف موحد هو السبب في بقاء الكيان المحتل حتى وقتنا الراهن فضلاً عن أسباب أخرى ليست في مجال هذا المقال!
في عام 1965 م ، انتسب راشد الغنوشي إلى ( الاتحاد الاشتراكي ) ، وهو الفرع السوري للاتحاد الاشتراكي العربي في مصر . وبعد هذا الانتساب أصبحت القومية مسألة أيديولوجية و ليست عاطفية فقط ، وخلال سنة واحدة تعرف الغنوشي على حقيقة الفكر القومي ، واطلع في هذه الفترة على أفكار و كتابات ساطع الحصري مثل أراء و أحاديث في القومية العربية ، والعروبة أولاً ، وهوية الثقافة العربية. ولكن دور الفلسفة و الشك واثارة التساؤلات الفكرية ؛ هزت أركان الفكر القومي و أصبحت هزيلة لدى راشد الغنوشي ، لذلك لم يرى أي عمق في اطروحات الحصري ، ولم يجد فيها أي حجة يمكن استخدامها في الصراعات الفكرية بين الطلاب وبين التيارات الإسلامية و القومية .
وأعتقد أن الغنوشي لم تكن لديه أي إشكالية مع الدين الإسلامي بالرغم من قوميته و انضمامه إلى الاتحاد الاشتراكي. وعلى الرغم من انتقاداته لأساليب مشايخ الدين و جمودها و عدم قدرتها على إقناع الطرف الآخر إلا أنه كان متمسكاً بالدين و لم تتزعزع الشعائر الدينية لديه، بل كان يؤدي بعضها في ذلك الوقت، والخلل كما يرى الغنوشي يكمن في علاقة الفكر القومي بالدين الإسلامي ، لأنه كان يعتقد في بداية الأمر أن العروبة أو القومية لا تتعارض مع الإسلام ، ولا تتطلب عزل الدين عن ممارستها. ويذكر أنه دخل في نقاش حاد حول موقع الاسلام لدى الحزب ، و اكتشف أن الإيمان بالله ليس عنصراً أساسياً في ثقافة الحزب القومية.
ويمكن القول أن سبب انشقاق الغنوشي عن الاتحاد الاشتراكي ليس دينياً فقط ، بل كانت هناك جملة من الاسباب تداخلت فيما بينها دفعته إلى إتخاذ ذلك القرار، أحدها هزيمة 1967م التي أطفأت وهج الحماس القومي . فالقومية و التعاطف معها لدى الغنوشي كانت بسبب التغريب الذي شهدته تونس في عهد بورقيبة ، ولأن الناصرية في شمال أفريقيا كانت تأخذ صورة الإسلام ، ولم يكن هناك تمييز ما بين الإسلام و القومية.
للاطلاع على المقال الأول حول مراجعات راشد الغنوشي.. (مصر والقومية) على الرابط التالي :
أضف تعليق