يصف ابن خلدون الشعرَ الشعبي بأنه شعر “مختلّ الإعراب”، وأن “أساليب الشعر وفنونه موجودة فيه ماعدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب الكلمات موقوفة الآخر”.
ويقصد بالموقوفة الساكنة، ويكاد يتفق النقاد والمثقفون على هذا الأمر، ولكن إذا نظرنا في الأوزان التي يقوم عليها الشعر الشعبي -وهي أوزان خليليّة مع تغييرات يسيرة- نجدها لا تسمح بتسكين أواخر الكلمات إلا في موضعين: إذا كانت الكلمة في القافية، أو كان الذي بعد الكلمة متحركا وسمح الوزن بذلك؛ أي إذا لم يلتقِ ساكنان ووافق سكون آخر الكلمة ساكنا في الميزان العروضي، ومثال سماحها بالتسكين قول خالد الفيصل: (القنصْ بالركادةْ والتسرّعْ جهالةْ) وهذا البيت على البحر الممتد (فاعلن فاعلاتن) ثماني مرات، وكل الكلمات في هذا الشطر جاءت على سواكن التفعيلات فأمكن تسكينها. ومثال عدم سماح الوزن بالتسكين قوله في مطلع القصيدة نفسها: (من خصايص عنودَ الصيدِ كثرَ الطواري) وهنا لم يستطع تسكين “عنود” لأن آخرها جاء على متحرك السبب الأخير في التفعيلة الثانية، ومثلها “الصيد” التي جاء آخرها على أول الوتد المجموع في التفعيلة الثالثة، و”كثر” التي جاء آخرها على متحرك السبب الأول في التفعيلة الرابعة، ولو سكّنتْ الكلمات في مثل هذه المواضع لانكسر الوزن. والسؤال: على أي أساس يحرّك الشاعر الشعبي أواخر الكلمات في قصيدته وهو لا يستخدم قواعد النحو؟ هل الأمر عشوائي ولكل شاعر طريقة مختلفة عن الآخر، أم أن لكل قوم طريقة موحّدة تولّدت من طبيعة لهجتهم؟
في الحقيقة أن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى استقراء كثيرٍ من الشعر الشعبي المسموع وليس المكتوب، حتى تتضح طريقة الشاعر نفسه في تحريك أواخر كلماته، مع أن الشاعر قد لا يحرّك كثيرا من الكلمات في الإلقاء العادي، فيقف أينما شاء ويحرّك متى أراد، ولهذا السبب لن أمثّل إلا بالشعر المُغنّى، أو بالأبيات التي أسمع تحريك قائلها لها. وبعد شيء من الاستقراء يتضح أن للشعر الشعبي بعض القواعد المشتركة في التحريك، أول تلك القواعد أن الكلمة تأخذ حركة مجانسة للحرف الذي بعدها؛ فتُحرّك الكلمةُ بالفتحة إذا كان أولُ حرفٍ في الكلمةِ التي تليها مفتوحا. كقول السديري: (يا خالقَ أجناسٍ ويا مفنيَ أجناس) وهذا على المسحوب “مستفعلن مستفعلن فاعلاتن” مرتين، وحرف القاف في (خالق) جاء على ثاني الوتد المجموع في التفعيلة الأولى، لذلك لم يستطع تسكين الكلمة فحركها بالفتحة لسهولة الانتقال إلى الحرف المفتوح بعدها، ومثلها (مفنيَ)، وقد سقطت الألفات بعد هذه الكلمات المفتوحة، فكأنهم يستعيضون عنها بفتح أواخر الكلمات قبلها. ومثل الألف أل التعريف، ومثالها قول خالد الفيصل: (من باديَ الوقت) والياء هنا محرّكة بالفتحة لتجانس حركة أل التعريف بعدها في كلمة “الوقت”، لأن همزة الوصل في أل التعريف حكمها الفتح وإن سقطتْ في درج الكلام، ومثلها التاء في (عذباتَ الأيام)، والواو في (حلوَ الليالي)، واللام في (مثلَ الأحلامي) وشواهد هذا كثير.. وتحرّك الكلمةُ بالضمة إذا وليها واو، كقوله في قصيدة “مجموعة إنسان”: (فيني نهارُ وليل) وهي على المسحوب، والراء في “نهار” محركة بالضم لسهولة الانتقال للواو بعدها، ويقابل الراء المضمومة في الوزن متحرك السبب الأول في التفعيلة الثانية، ولم تسقط الواو هنا بل جاءت على ساكن السبب الأول. ومثلها قوله أيضا: (فزّ الخفوقُ وقلت يا لله عسى خير) وهي على المسحوب أيضا، ومكان القاف في (الخفوق) مثل مكان الراء في (نهار). وشواهد هذه كثيرة أيضا. وتُحرّك الكلمةُ بالكسر إذا وَليها حرفٌ مكسور، كقوله: (مجموعةِ إنسان) وهنا حرّك التاء بالكسر لمجيء الألف المكسورة بعدها، ولكن الألف سقطت هنا كما سقطت مع الفتح، فكأنهم يعاملون كل همزة معاملة همزة الوصل. كما تُحرك الكلمة بالكسر إذا وليها ياء ككلمة الوقت في قوله: (مخطور عني عجاج الوقتِ يخفيها) وهذه على البسيط (الهجيني الطويل، أو المنكوس) وجاءت التاء المكسورة في “الوقت” على أول الوتد في مستفعلن الثانية والياء في “يخفيها” على ثانيه، فعندما احتاج التحريك لكيلا ينكسر الوزن حرك بالكسر لسهولة الانتقال من الكسر إلى الياء. ومثلها أيضا قوله: (فزّ الخفوق وقلتِ يالله عسى خير) والتاء في “قلت” على أول الوتد في مستفعلن الثانية والياء بعدها على ثانيه، ولا يستطيع تسكين التاء إلا إذا وقف عليها..
ولكن هذا “الإتباع” غير مُطّرد في أشعارهم؛ فالتحريك بالكسر يخرق كل هذه القواعد، ومن ذلك أنهم يكسرون الكلمة وما بعدها مفتوح ككلمة “راس” في قول السديري: (يقول من عدى على راسِ عَالي)، كما أنهم مكثرين من تنوين الكسر، ويأتون به إذا احتاجوه لسد الوزن ويهملونه إذا لم يحتاجوه، لأن التنوين في الميزان العروضي عبارة عن حرفين متحرك فساكن، ومثال إعماله وإهماله: (ولكل شرايٍ بضاعهْ وسوقي) وهذا على المسحوب، وقد نوّن “شراي” ليسد بها السبب الثاني من مستفعلن الثانية، ولم ينون “بضاعهْ” -مع أنها منكّرة- لمجيء آخرها على ساكن السبب الأول في “فاعلاتن”. ومثلها: (ناسٍ صحيح وناسِ مزّاحه). كما أنهم يحرّكون الكلمة الأولى غالبا بالكسر ككلمة “ناس” في الشطر السابق، و”كيف” في قوله: (كيفِ دَاهم خلوتي في لحظتين)، و”الحب” في قوله: (الحبِّ له بقصى الحشا صندوق) وشواهد هذا كثير.. ورحم الله “قطربا” عندما زعم أن سبب الإعراب في اللغة العربية التخلّص من التقاء الساكنين، وها هم في الشعر الشعبي يحركون بلا إعراب ولا قواعد مطرّدة!
@raddadi4
بل كيف يتخلّص الشعر الشعبي من نفسه ؟! ?
قطرب هو محمد بن المستنير (ت 206هـ) تلميذ سيبويه، علل وجود الإعراب: الضمة والفتحة والكسرة في اللغة العربية للتخلص من التقاء الساكنين. وأن ليس لها معنى غير ذلك.