أقلامهم

أقلامهم | نديم قطيش يكتب: كيف تنتصر إيران..؟

منذ عام 1979 لم تنجح إيران في إنتاج استقرار حقيقي لمشروعها في المنطقة. لم تنجح في إنتاج نظام واحد في دولة واحدة، يتحالف معها ويدور في فلكها الاستراتيجي. لم تنجح في تأسيس بنية تحتية مستقرة لنفوذها، تسمح لها بالتدخل في شؤون هذه الدولة أو تلك، بغير آلة الحرب المستمرة والدائمة.
في المحصلة المنطقية هذا فشل معلن للمشروع الإيراني، ولمشروع مد نفوذ إيران وللرغبات الإيرانية التي تعبر عنها تصريحات ساذجة من نوع أن إيران تحتل أربع عواصم عربية هي بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق.
وليس مطروحًا في المدى المنظور أن يتحول هذا الفشل إلى نجاح في أي من الدول التي تتحرك فيها إيران أو في غيرها.
مع ذلك إيران تربح.
الأسبوع الفائت قال الجنرال محمد علي فلكي، أحد أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني، إن بلاده أنشأت تحت قيادة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ما يسمى «جيش التحرير الشيعي»، وحددت له مهام قتالية في سوريا والعراق واليمن.
وفي حوار أجرته معه وكالة «مشرق» المقربة من الحرس، أسهب فلكي في شرح الخريطة الميليشياوية التي تديرها إيران، لا سيما في سوريا، معددًا ميليشيا «زينبيون» الباكستانية و«حيدريون» العراقية و«حزب الله» المكون من «حزب الله» العراقي و«حزب الله» السوري، و«حزب الله» اللبناني.
من غير المفهوم لماذا تتبرع شخصية بهذا المستوى لتوضيح شأن عسكري يمكن أن يكون من المفيد إبقاؤه مموهًا وغامضًا. وقد يقلل البعض من أهمية التصريحات باعتبارها جزءًا من الحرب النفسية التي تشنها إيران لإظهار مكامن قوة لا تملكها. وثمة من يرى أن التصريحات تستبق انكشاف جوانب مهمة من الإدارة العسكرية الإيرانية في سوريا، وهو تفسير راجح في ضوء ما نشرته صحيفة «دايلي ميل» البريطانية قبل أيام عن وثائق تشرح بنية الإدارة العسكرية الإيرانية لميليشيات شيعية في سوريا.
فبحسب وثائق حصلت عليها الصحيفة من مصادر رفيعة في الحرس الثوري، وحكمت مصادر استخباراتية بتمتعها بمصداقية عالية، فإن لإيران غرفة عمليات متطورة بالقرب من مطار دمشق، تدير عبرها الحرب في سوريا. كما تشير الوثائق المسربة إلى أن عدد المقاتلين الذين يأتمرون بإمرة الحرس في سوريا ستون ألفًا.
وفي العراق الذي دمرت حكومة نوري المالكي جيشه الذي بناه الأميركيون، كما ظهر جليًا في فضيحة سيطرة 1500 مقاتل من «داعش» على الموصل التي كان يحميها أكثر من 30 ألف جندي عراقي، تبدو الصورة مماثلة. فاستبدال الميليشيات بالدولة ومؤسساتها يسير وفق المخطط الذي اعتمد في لبنان بشكل أقل صفاقة وفي سوريا بشكل فاقع، عبر ما يسمى الحشد الشعبي.
بمثل ما تحاول الدولة اللبنانية استرضاء ميليشيا «حزب الله» والتعايش معها تسعى بغداد، عبر مخططات لدمج الحشد بالدولة. لكن المفارقة أن الحشد، كما «حزب الله» اللبناني، يشعر بتفوق عقائدي ولوجستي على الدولة الضعيفة التي تغازله وتسترضيه. في هذا السياق قال أبو آلاء الولائي، الأمين العام لـ«كتائب سيد الشهداء»، إحدى الميليشيات البارزة ضمن الحشد الشعبي، إن «الكتائب تشكيل عقائدي مرتبط بولاية الفقيه ولا يتبع الساسة العراقيين»!
قيادي آخر في ميليشيات الحشد، هو أوس الخفاجي، قائد ميليشيا أبو الفضل العباس، هدد علنًا السفير السعودي لدى العراق ثامر السبهان، من دون أن يصدر أي موقف عن الدولة العراقية يفيد بوجود أي مسافة بين الدولة والخفاجي!
لا يفترض أحد أن لهذا المشروع أي أفق مُستدام، يؤسس لمنظومة حكم مستقرة، موالية لإيران. إيران نفسها تعاني من أزمات لا حصر لها لا تسمح لها بالتمادي في دفع تكاليف إدارة الحروب الأهلية المتعددة في سوريا ولبنان والعراق واليمن وربما غدًا في أماكن أخرى. لا يمكن لدولة يعاني 30 في المائة من سكانها من المجاعة، بحسب مساعد وزير الصحة الإيراني علي أكبر سياري، أن تبقي على موازنات الحرب مفتوحة إلى الأبد!
مع ذلك إيران تنتصر.
المشروع الإيراني ينجح ليس بمقدار ما يبني، بل بمقدار ما يدمر في مدن وحواضر العرب!
الدمار اللاحق بسوريا والعراق، بشكل رئيسي، معطوفًا على الدمار الاجتماعي والسياسي والمؤسساتي في هذين البلدين وغيرهما، يقابله في إيران بلاد قابلة للنهوض.
أيًا تكن الخسائر السياسية والاقتصادية التي تعانيها إيران، فطهران ليست حلب أو بغداد، وتبريز ليست داريا أو حمص أو الفلوجة، والموصل وأصفهان ليستا صلاح الدين أو دير الزور. قد يبقى النظام الإيراني أو قد يرحل، لكن إيران باقية ببنيتها التحتية، وإن المتخلفة، وبشوارعها وجسورها ومطاراتها ومدارسها ومستشفياتها.
في بلادنا تختلف الحكاية؛ فتكلفة إعادة إعمار سوريا تتراوح بين 180 مليار دولار بحسب تقديرات البنك الدولي حتى تعود إلى ما كانت عليه عام 2011، و500 مليار دولار بحسب تقديرات أخرى. في حين قدر مجلس الوحدة الاقتصادية العربية تكلفة إعادة إعمار العراق بنحو 600 مليار دولار، يضاف إليها 200 مليار دولار تكلفة الحرب. وحدث ولا حرج عن اليمن.
إيران تنتصر بدمارنا وبتهديم أنسجة الحيز المديني وبتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في حواضر أساسية لأمن واستقرار عموم المنطقة.
لم يعد كافيًا تمنية النفس بأن مشروع إيران مستحيل. ربما يكون كذلك، لكن انتظار اصطدامه باستحالته، يعني المزيد من الانهيار عندنا. انهيار قد لا يكون قيام بعده.
إيران عدو. وعدو خطير وينبغي أن تعامل على هذا الأساس وفق استراتيجية مواجهة مصيرية.