أقلامهم

د.ابتهال الخطيب: سقف صفيح

لكل بلد دونالد ترمبه، لكل بلد جروحه وتقرحاته.

يقول اللواء مازن الجراح في مقابلته على برنامج لقاء الراي «المقيم بصورة غير قانونية مستفيد، يعني ما في سلطة عليه، الحمدلله، قاعد عايش مرتاح، لا تقدرين ترحلينه من البلد، ومعزز مكرم يعني، واللجان الخيرية قاعد تغطي مصاريف، فاشحقه أعدل وضعه؟». ولقد جهدت أنا وبحق في فهم وجهة نظر الشارع الفقيرة التسامح في قضية البدون الإنسانية، فتبين أن هذا الفقر نابع من سنوات من العزل والتعبئة ضد البدون والتغييب الحارق للمعلومات والإحصائيات والدفع القاهر بالتصريحات الرنانة، ظاهرها حقيقي وباطنها مليء بالمغالطات والتحوير وأحياناً الكذب الصريح. ثم جهدت أنا وبحق في فهم وجهة النظر الحكومية، والتي يبدو أن المتحدث الرسمي باسمها حول الموضوع هو اللواء الجراح، الذي يظهر مرة بعد مرة بهدوئه المعهود ليخبرنا أنه «إذا يبونه يطلعونه» وأن من يسيء للنظام لازم «يبلع العافية» وأن الدولة تنتوي شراء جنسيات، وأن من يتأخر في تجديد جواز سفره تسحب بطاقته المدنية، وغيرها من التصريحات، التي غالباً ما يتم نفيها لاحقاً من الحكومة مع استمرار أريحية اللواء الجراح في الظهور الإعلامي والتصريح الواثق. ورغم اجتهادي إلا أنني لم أوفق في فهم وجهات النظر الحكومية ولا وجهات نظر مازن الجراح ولا شيء في الواقع مما يحدث مؤخراً في البلد.

كيف يكون البدون مكرما وهو يأخذ حسنة من الجهات الخيرية ومن بيت الزكاة، تدفع له شهرا وتغيب أشهرا؟ كيف مكرم وهو لا يستطيع إيفاء احتياجات بيته سوى بالسؤال والتوسل؟ كيف مقيم وبصورة غير قانونية؟ كيف يؤكد مسؤول حكومي أن «لا سلطة عليه» وكيف يسأل «اشحقه أعدل وضعه؟» كيف تحدث كل هذه الأشياء؟ كيف تتجاور كل هذه المتناقضات؟ لم تستمر الحكومة في سماحها للجراح بالتصريح؟ ولم ينفون تصريحاته بعد إطلاقها؟ لم تجرجر الحكومة أذيال المأساة بهذه الصورة؟ وإلى متى؟ لم لا يجنس المستحقون حسب تصريحات الحكومة؟ لم لا يتخذ إجراء واضح بحق من تدعي الحكومة امتلاكها لثبوتيات انتمائهم؟ ألف لم، وألف كيف وألف لماذا، وتبقى الأسئلة معلقة مثل تعلق السقوف الصفيح فوق بيوت تيماء والصليبية.

كيف يعيش البدون مرتاحا وهو بالكاد يتحصل على وظيفة راتبها 200 دينار وإيجار بيته 250؟ كيف يعيش البدون مستقرا وفوق رأسه سيف القرارات، اليوم لديه وظيفة، غداً يسرحونه، بعدها يسحبون التسريح وهكذا كما حدث مؤخراً مع المدرسين البدون؟ كيف يعيش البدون معززا وهو لا يستطيع تسجيل بيت أو سيارة أو حتى تلفون باسمه إذا ما انتهت صلاحية أوراقه؟ الطبابة عسيرة، الدراسة عسيرة، وحتى تقضي هذه أو تلك تمر بمراحل مهينة مؤلمة. البيوت صفيح، المناطق معزولة فقيرة، الدراسة الجامعية حلم، الزواج هم، الأبناء زيادة هم. إذا كانت أوراقك صالحة فأنت تمشي على حبل رفيع، إذا كانت أوراقك منقضية الصلاحية فأنت تمشي على الماء، ولا يمشي على الماء سوى الرسل، فلا تملك أن تسجل طفلك في مدرسة أو تدخله مستشفى أن تقود سيارة أو تقدم على وظيفة أو تتزوج، لا تملك حتى أن تتزوج، وإذا أصررت، يجب أن تمر بمرحلة مهينة من تقديم شكوى زنى في المحكمة حتى يتم إثبات زواجك. تريد أن تجدد أوراقك، لا بد أن توقع على تعهد يقول إنك تلتزم الصمت فلا تحتج ولا تعترض قولاً أو فعلاً وأن تقر وتعترف بأفضال الجهاز المركزي عليك وتمتدح جهوده في حل مشكلتك، فإن رفضت لا تجدد أوراقك، وإن لم تتجدد تقف حياتك تماماً، تشل حركتك، ويتوقف تعليم أبنائك، وتموت أمك المريضة في سريرها، لكن البدون «معزز مكرم» فحكومتنا تقول ذلك، والحكومة و»جراحها» أبخص.

ومن شدة بخص الحكومة، نستمع للواء الجراح وهو يقول «يفترض أن أي شخص يطالب بالجنسية الكويتية لازم يكون عنده جنسية، القانون صريح يعني، لازم يكون عنده هوية، ما يصير واحد يدعي انعدام الهوية عنده ويطلب تجنيسه بالجنسية الكويتية، فيفترض لازم نشوف لهم حل بأي جنسية يعني». الحل الذي تجده الحكومة ناجعاً حسب تصريح اللواء إذاً هو أن تشوف لهم أي جنسية، تشتريها، تزورها، ليست هذه هي المشكلة. المشكلة في الواقع هي أن حكومات العالم تبقى حكومات، عملها السياسة وليس الأخلاقيات والمثل والحقوق، لذا الطرق الملتوية غير غريبة عليها، لكن حقيقة لا أعرف حكومة تصرح ببلواها مثل حكومتنا، لحظة، والمرشح دونالد ترمب.

المهم أن الجراح يقول رداً على سؤال المذيعة حول ما إن كان يعتقد أن البدون كلهم بأعدادهم الكبيرة يخبئون جنسياتهم «من المؤكد يعني، وإلا إذا عنده جذور سابقة موجودة في الكويت ليش ما…، كانت لجان موجودة للجنسية». إذاً الجراح يقول البدون كلهم نصابين، حتى الجيل السادس منهم، يعني أحفاد الأحفاد مثلما ورثوا الهم والغم، ورثوا كذلك القدرة على النصب وتخبئة الجنسيات المهترئة في الغابة الكبيرة خلف النهر، والحكومة تقول هناك أعداد مستحقة، كانوا في السابق 54 ألفاً وتناقصوا إلى 34 ألفاً بالتقريب ومازالوا في تناقص مستمر مع أن قانون الطبيعة يقول بوجوب تزايدهم، ولكن لحكومتنا في تصريحاتها شؤون، والمفاهيم المدنية تقول كلهم مستحقون إذا ثبت وجودهم لما يزيد على 25 أو 30 سنة في البلد، والمنطق يقول حكومات متعاقبة وأجهزة كاملة متكاملة وأموال وفيرة يمكنها جميعاً أن تؤسس لحل سريع وعادل ورحيم، وأنا أقول وحياة أغلى ما عندكم، ضعوا مستشارا إعلاميا يوجه المسؤولين الكبار قبل الظهور والحديث، لا تحلوا المشكلة، لا تحققوا وضعا إنسانيا، دعوا البدون يعيشون في العزة والكرامة التي هم عليها في بيوت تيماء والصليبية والجهراء الصفيحية، فقط عينوا مستشارا إعلاميا يزين الكلام ويبهرج الآلام ويجعل البشاعة مبلوعة، كل حكومات العالم تفعلها، ولستم بأقل، مستشار إعلامي هو غاية الطموح حالياً، مع شكرنا وامتناننا الوفير.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.