لأن الشيء بالشيء يذكر.. ولأن الحديث في تونس مؤخرا طوال أيام لم يكن سوى عن مقابلة تلفزيونية أجريت مع الرئيس السابق منصف المرزوقي، لم تبث في البداية بسبب «ضغوط» حقيقية أو مزعومة، قبل أن يفرج عنها في النهاية… فقد تذكرت مقابلات سجلت ولم يـُشأ لها أن ترى النور، أو لم يـُــشأ لها أن تسجل أصلا… وفي تونس أيضا.
كانون الأول/ديسمبر 1998، ذهبت إلى تونس لتسجيل سلسلة من المقابلات مع شخصيات بارزة من النخبة التي أرادت لها «الجزيرة» أن تظهر على شاشتها بعد عامين من انطلاقتها وفي ظل لوم بأن القناة مشرقية أكثر من اللازم. ولأني أعلم جيدا كيف تجري الأمور هناك، ولأن القوم يتوجسون دائما من كل إعلام أجنبي لا يدين لهم بالولاء والطاعة، فقد بعثت بقائمة هذه الشخصيات إلى «وكالة الاتصال الخارجي»، تلك الوكالة التي أنشأها بن علي لمراقبة الإعلام في الداخل وتلميع صورته في الخارج. لم أكد أصل تونس حتى بدأت عملية «ثعلب الصحراء» ضد العراق فطلب مني العودة فورا إلى الدوحة وتأجيل هذه المقابلات جميعا.. وقد كان.
نيسان/أبريل 1999، عدت مرة أخرى ولم يكن هناك من مفر في تذكير الجماعة بأن قائمتنا هي هي، حتى لا تبدأ الوساوس تجتاحهم من جديد. لم يكد يمضي يومان على الوصول هناك حتى دعيت على عجل للحضور إلى مقر الوكالة. ومن سذاجتي وقتها ظننت أن مسعاي الخجول للحصول على موعد مقابلة مع رئيس الجمهورية قد كلل بالنجاح!!.
ـ لدينا تحفظات على بعض الأسماء الواردة في قائمتكم.. قالها لي أخيرا أسامة رمضاني مدير الوكالة.
ـ بعد أن كنتم على علم بها لأشهر ولم يصدر منكم أي اعتراض؟!! مثل من هات…!! قلتها مستغربا ومتبرما.
ـ دكتور محمد الطالبي.
ـ هذا المفكر إعتذر لنا بعد قبول.. من غيره؟
ـ دكتور هشام جعيط.
ـ هذا المفكر سجلنا معه أصلا البارحة وقضي الأمر.
ـ هل لي بمشاهدة المقابلة؟
ـ أبدا.. مستحيل… بإمكانكم حجز الأشرطة في المطار عند المغادرة إذا شئتم…لكن لن أدعكم تشاهدون أي مقابلة، لا هذه ولا غيرها.
ـ… هل لي بمعرفة ما إذا كان الرجل تحدث عن تونس؟ (وهو يقصد نظامها طبعا). قالها خجِلا ومترددا فالرجل في النهاية كان صحافيا قبل أن يصبح في هذا الموقع.
ـ لا.. لم يتحدث عنكم، ولكن إن اعتبرتم أنكم مستهدفون لمجرد حديثه عن الحكم الرشيد وعيوب الدكتاتورية.. فهذه مشكلتكم أنتم، ليست مشكلته ولا مشكلتي طبعا!! فسكت دون تعقيب.. فواصلت: ومن غيره؟
ـ الأستاذ الجامعي عبد المجيد الشرفي والشاعر محمد الصغير أولاد أحمد.
ـ وماذا لو رفضت ؟
ـ لن نمنعك من إجراء أي مقابلة مع أي كان في بيته فهو حر في استقبال من يشاء، ولكن سيكون لهذا القرار تبعات على عمل القناة هنا وسعيكم لتعيين مراسل، وحتى على علاقتنا معك أنت…
كان التهديد واضحا… وكان علي أن أختار بين أن أجمع أغراضي وأعود من حيث أتيت دون أي مقابلة أخرى (القائمة كانت تضم أستاذ الألسنية الطيب البكوش والقانوني المرحوم عبد الفتاح عمر وعالم الاجتماع الطاهر لبيب والمطرب لطفي بوشناق) مع ما يعنيه ذلك من انفجار أزمة مفتوحة مع القناة سأكون أنا مطلقها، وبين أن أقبل هذا التنازل غير البسيط طمعا في علاقة أفضل بين بلدي والقناة في المستقبل، حتى وإن أخفيت خبر هذه المضايقات عن مديري. وقد كان للمخرج العراقي الصديق عماد بهجت، الذي صاحبني في هذه الرحلة، دور كبير في تهدئتي حتى لا نكون نحن السبب في قطيعة بين الجانبين في وقت جئنا فيه لــمد الجسور. وفي النهاية اخترنا الحل الثاني، و«بلعنا» ما جرى عن مضض.
كان رمضاني خلال هذه الجلسة على قدر واضح من التوتر، وكان يغادرني بين الفينة والأخرى لإجراء مكالمة هاتفية، ولم يكن لدي أدنى شك أنه كان يتحدث باستمرار مع عبد الوهاب عبد الله الرجل القوي في قصر قرطاج وماسك ملف الإعلام الأوحد في البلاد، أستاذي الذي درسني في «معهد الصحافة وعلوم الإخبار» قبل أن يصير الأستاذ وطالبه في ضفتين متقابلتين بالكامل.
لم يعش الشاعر المتمرد والمشاكس أولاد أحمد حتى يقرأ هذه الرواية التي تفسر حقيقة عدم تسجيل المقابلة معه ليعرف أن العذر الذي قدمته آنذاك لم يكن صادقا… وأطال الله في عمر المفكر الناقد والجريء للفكر الإسلامي عبد المجيد الشرفي الذي سيفك عبر ما أوردت طلسم الاعتذار الذي سقته له آنذاك. قررت بعد الذي جرى ألا أبادر أبدا لأي عمل تلفزيوني في تونس طوال سنوات بن علي، عدا مرة واحدة كانت لتغطية القمة العربية المجهضة 2004. تأخر إيراد هذه القصة 17 عاما كاملة… ولكنه الشيء بالشيء يذكر.
أضف تعليق