هل تدخلت القوى الكبرى في بلد إلا وتفتت أو بقي في حالة صراع داخلي مرير لسنوات وربما عقود؟ لا شك أن الصراعات والحروب الأهلية تترك البلدان التي تحدث فيها في حالة خراب ودمار وفوضى لردح طويل من الزمن. لكن تلك الصراعات تصبح أسوأ بكثير عندما تتدخل فيها قوى خارجية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
وعلى ضوء تجارب العراق وأفغانستان والصومال واليمن ويوغسلافيا نستطيع أن نؤكد أن التدخل الأجنبي لا يهدف بأي حال من الأحوال لحل كوارث تلك البلاد بقدر ما يكون عاملاً مساعداً على تفاقم الأزمات وإطالة أمدها أو تقسيم البلاد كما حدث في يوغسلافيا، وكلما أرى دولة عظمى تتدخل هنا وهناك بحجة إحلال السلام أو وقف القتال أضع يدي على قلبي، لأن النتيجة تكون في غالب الأحيان ليست في صالح تلك البلاد ولا شعوبها، بل تزيد الطين بلة، وتصب الزيت على نار الحروب الأهلية.
ماذا فعل التدخل الخارجي في أفغانستان؟ لقد تدخل السوفيات في بادئ الأمر لصالح الرئيس الشيوعي نجيب الله لتثبيت حكمه دون أن يدروا أنهم بذلك سيستثيرون قسماً كبيراً من الشعب على بعضه البعض وعلى الغازي الخارجي طبعاً. وكانت نتيجة الغزو السوفياتي لأفغانستان قيام ثورة داخلية على النظام الذي جاء السوفيات لدعمه.
وبسبب التنافس بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وقتها على مراكز النفوذ في العالم، راحت أمريكا تدعم المجاهدين الأفغان بالمال والسلاح لطرد السوفيات وتثبيت جماعتها هناك. وقد نجح المجاهدون في طرد الغازي السوفياتي. لكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد حدث صراع مرير بين المجاهدين أنفسهم أدى إلى تدمير البلاد حتى تمكنت حركة طالبان من القضاء على كل منافسيها من الفصائل الأخرى، واستفردت بحكم أفغانستان. لكن الأمور لم تستتب لطالبان لفترة طويلة، فقد تعرضت أفغانستان لغزو جديد هذه المرة من القوة التي ساعدت الأفغان في طرد السوفيات.
لقد تحججت أمريكا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزت أفغانستان، وقضت مبدئياً على حكم حركة طالبان، ونصبت محلها نظاماً عميلاً لها لا يختلف عن نظام نجيب الله الشيوعي الذي كان عميلاً للسوفيات. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحولت طالبان إلى حركة مقاومة ضد عملاء أمريكا وتوابعها في أفغانستان، مما أدخل البلاد في حال انقسام وحرب أهلية جديدة لم تنته حتى الآن. وسيظل الصراع قائماً بين طالبان والحكومة المدعومة أمريكياً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
طبعاً لم يتعلم الأمريكيون من التدخل في أفغانستان، فعادوا الكرة في العراق لاحقاً وبنفس اللعبة والطريقة، فأسقطوا نظام الرئيس صدام حسين، وعينوا محله عملاءهم من شراذم المعارضة العراقية. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحول أنصار صدام وكل المتضررين من الغزو الأمريكي للعراق إلى حركات مقاومة لم تطرد الأمريكيين من العراق فحسب، بل جعلت من العراق ساحة حرب أهلية ممتدة منذ دخول الأمريكيين إلى العراق عام 2003. ولو نظرنا إلى العراق الآن لوجدنا أنه أصبح مضرباً للمثل في الخراب والدمار والفوضى والفشل.
وكما أن الأمريكيين لم يتعلموا من خطيئة السوفيات في أفغانستان، فإن الروس لم يتعلموا بدورهم من خطيئة أمريكا في العراق.
ها هي روسيا الآن تتدخل في سوريا لصالح طرف ضد الأكثرية في سوريا، فبدل أن تساعد الأكثرية التي ثارت على نظام طائفي أقلوي حقير، راحت تدعم النظام الفاشي ضد إرادة غالبية الشعب السوري الذي عاني الويلات منذ خمس سنوات. وكما تحججت أمريكا بإزالة النظام الديكتاتوري في العراق، تحاول روسيا تغطية غزوها السافر لسوريا بحجة محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الفصائل. ولتجميل تدخلها الفاشي في سوريا، تزعم روسيا أنها تبحث عن حل يجمع السوريين، مع العلم أنها تأخذ موقفاً صارخاً لصالح طرف ضد بقية الأطراف السورية كما فعلت من قبل في أفغانستان، وكما فعلت أمريكا في العراق. صحيح أن الوضع في سوريا مختلف عن الوضع في أفغانستان أيام الغزو السوفياتي. وصحيح ايضاً أن أمريكا وروسيا حليفتان في سوريا ضد الجماعات الجهادية. لكن ذلك لن ينجح أبداً في إيجاد حل للسوريين، لا بل سيعمق الأزمة، وسيزيد من التخندق الطائفي والمناطقي.
لا نعتقد أبداً أن القوى الكبرى تتدخل في البلدان المضطربة من أجل الحل، بل بالتأكيد من أجل مصالحها الحقيرة أولاً وأخيراً. وقد شاهدنا كيف أدى التدخل الروسي الأخير في أوكرانيا إلى تقسيمها وقبلها جورجيا. ولو صدقنا جدلاً أن روسيا تريد فعلاً أن تجد حلاً للكارثة السورية، فعليها أن تنسى الأمر، وأن تخرج من سوريا تاركة السوريين يتوافقون على حل فيما بينهم بأنفسهم دون وساطة أو تدخل خارجي مسموم كالتدخل الروسي الآن. إن التغيير الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، ويمكن أن يحقق نتائج إيجابية مستدامة في أي مكان هو التغيير من الداخل. أما التغيير المفروض من الخارج فسيفشل، وسيؤدي إلى خراب البلدان حتى لو دعمته كل قوى الأرض. هل نجح التدخل الأمريكي في العراق في تشكيل نظام أفضل يقبله كل العراقيين؟ بالطبع لا.
لقد أدى إلى تفتيت العراق والعراقيين على أسس طائفية ومذهبية وعرقية مقيتة. لماذا؟ لأنه لم يأت بمباركة كل العراقيين، بل حاول أن يفرض الشيعة على السنة. لهذا كانت نتائجه كارثية. وإذا فشلت أمريكا سيدة العالم في فرض نظام على العراقيين بكل جبروتها العسكري والاقتصادي والسياسي، فإن روسيا الضعيفة لن تستطيع أن تفرض على السوريين نظاماً لا يقبل به كل السوريين.
أضف تعليق