احتدم النقاش العربي في وسائل الإعلام، وفي المنتديات السياسية، حول مَن سيكون في البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) 2017، ولم يكن ذلك النقاش خاليًا من العاطفة. مكابر من يعتقد أن ما يحدث في الولايات المتحدة لا يهم العالم أو العالم العربي، وقد وجدنا، فجر الأربعاء الماضي، كيف استجابت البورصات العالمية للأخبار الأولى الآتية من صناديق الانتخاب بشكل سلبي، وهو دليل على التداعي الاقتصادي – السياسي التلقائي على المستوى الدولي. قيل كثير حول تصريحات السيد دونالد ترامب وهو في السباق الرئاسي، التي لم تخلُ من الاستفزاز المحلي (الأميركي) والدولي، خصوصًا تجاه قضايا شائكة في المسرح العالمي، وفي مسرح الشرق الأوسط.. النقاش أخذ أكثر من بُعد؛ الأول أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وأيًا كان الرئيس فإن تغيير اتجاه «هذا المركب الضخم» يحتاج إلى أكثر من شخص، وأطول من أربع سنوات! أما الاتجاه الآخر فيقول إن السيد ترامب له أجندة غير خفية، وهي أن العامل الاقتصادي هو الذي سوف يحرك أعماله جلها، إن لم يكن كلها، وقد اعتمد على إثارته في ملفات كثيرة، من المهاجرين إلى «الإسلاموفوبيا» إلى تأثير العولمة، وجزء من تعافي الاقتصاد لا يتوقف عند إعادة الشركات الأميركية التي تعمل في العالم إلى الوطن، أو خفض الضرائب، بل الانتهاء من عصر كانت تسيطر عليه المبادئ إلى عصر تسيطر عليه قولاً لا فعلاً المصالح، فمن أراد اليوم أن يستعين بقوة أميركا في ظل مبادئ السيد ترامب، فعليه أن «يدفع».
طبعًا التخوف واجب، والتحوط مطلوب، لأن الظاهرة الترامبية جاءت وجلبت معها أيضًا أغلبية جمهورية في المجلسين التشريعيين الأميركيين، وهو أمر يسهِّل على الرئيس الجديد تنفيذ أفكاره ودعمها مؤسساتيًا. لم يكن كل الجمهوريين، خصوصًا كبارهم، قد أخذوا السيد ترامب وطروحاته مأخذ الجد، إلا أن الناخبين الأميركيين، أو قل أغلبية ما زالت وازنة، أخذوا الموضوع مأخذ الجد، وأوصلوه إلى الرئاسة، وكما قيل في أكثر من تحليل علمي، فإن «الواسب» أي البيض البروتستانت الأنجلو – ساكسون من الطبقة الوسطى، وهم قريبون من التآكل، قد أخذوا ثأرهم؛ كانوا في الخمسينات من القرن الماضي تقريبًا ثمانين في المائة من الشعب الأميركي، واليوم أصبحوا فقط خمسًا وستين في المائة، وهم متخوفون من مرض العولمة، ومن التغيير الديموغرافي الضخم، فاللون الرمادي (غير الأبيض) سوف يسيطر على الولايات المتحدة في السنوات القليلة المقبلة، فكانت آخر فرصة لهم في رفع أصواتهم مع السيد ترامب. كانت ظاهرة ترامب لافتة للنظر، خصوصًا تفوقه على اثنَي عشرَ من رؤوس الحزب الجمهوري الكبار في الدورة الانتخابية التمهيدية، ولم يكن كثيرون يرغبون في أن يروه قريبًا من البيت الأبيض، وراهن كثيرون على خسارته، إلا أنه في النهاية فاز، يعني أن هناك قوى أميركية لم تكن في حسبان الجمهور المتابع، الذين لم يتبينوا مدى عمق تراث السيد أوباما السلبي على الوضع العام في الداخل الأميركي. والأكثر تأثيرًا ما عُرِف اليوم بـ«إغلاق العقل الأميركي»، وهو عنوان كتاب صدر قبل ربع قرن كتبه الفيلسوف الأميركي ألن بلوم، الذي حذر منذ ذلك الوقت من تدهور التعليم الأميركي وفقدانه للمحتوى وتمسكه بالقشور، الأمر الذي سوف يؤثر في السياسة، وهو أمر يتفق حوله كثيرون من المهتمين بالتعليم اليوم، وربما سطحية الناخب الأميركي هي نتاج طبيعي لذلك التعليم. وهي التي أثرت في صناديق الانتخاب أخيرًا.
المخاوف من إدارة السيد ترامب قائمة ومبررة، ولكن أيضًا يمكن أن ينتج عنها بعض الإيجابيات، خصوصًا في الشؤون الخارجية. نتيجة لنقص واضح في فهمه المعلن عن قضايا الخارج، قد يُترك الأمر إلى الفنيين والخبراء لرسم السياسة وتنفيذها، أي أن حديثه عن العلاقات الحميمة مع روسيا الاتحادية والسماح لها بإكمال احتلال أوكرانيا، وإطلاق يدها في الشرق الأوسط، كلام سياسة لا مصالح دولة، كما أن علاقته بحلفاء أميركا في أوروبا، وتهديده بسحب المظلة النووية عن بعضها، يقعان في ذلك الإطار، إلا أن كثيرًا من المخاوف يتعلق بالشرق الأوسط؛ فالسياسة الخارجية الأميركية لن تعود كما كانت لعقود طويلة تجاه المنطقة. البعض يرى أن الجمهوريين هم أكثر دراية بالشؤون الخارجية تقليديًا، ولكننا الآن نتحدث عن جمهوريين مختلفين، ومن الصعب التعامل معهم، فالسيد ترامب تحدث كثيرًا عن «فساد المؤسسة السياسية»، وفي الغالب سوف يستعين برجال ونساء ليست لديهم الخبرة الكافية أو التصور الصحيح لعالم ما بعد ثورة الاتصال الاجتماعي وسقوط كثير من الحواجز الدولية، وقد يصبح العالم، والأمر كذلك، محط تجارب للصحة والخطأ من الطاقم الجديد حتى يتعلم!
الأزمة التي سوف تواجه العرب ليست هينة في إطار التحول الجديد، وعلى وجه الخصوص منطقة الخليج، ومن السذاجة القول إنه لن يكون هناك تغيير، فالتغيير مقبل، ربما شكله، ومستواه، هو الذي سوف يحدد في الأشهر القليلة المقبلة، إلا أن القضايا المعلقة والمتروكة من الإدارة السابقة سوف تفتح ملفاتها، خصوصًا الاقتصادية والأمنية.
من جهة أخرى، فإن الوجع الاقتصادي الأميركي ليس بسيطًا، وهو وجع عولج في السابق بدخول الولايات المتحدة في صراع عالمي ساخن، نتذكر الوضع الاقتصادي عشية الحرب العالمية الثانية، وكيف كان جزءٌ من الحل هو الدفع بالصناعة العسكرية إلى أقصاها، هل يمكن أن يتكرر هذا الأمر؟! ليس مستبعدًا أن يتكرر في ضوء الاختناق الاقتصادي الذي حمل كثيرين ممن صوتوا للسيد ترامب إلى صناديق الانتخاب. المؤسف في الجانب العربي أن التغيير الذي يمكن أن يتم في الولايات المتحدة، خصوصًا في سياستها الخارجية، يأتي في وقت يدخل العرب فيه في أزمة غير مسبوقة من حروب أهلية أو حروب بينية، وفي شتات عربي أيضًا غير مسبوق، وضائقة اقتصادية، ولم نجد حتى الآن سيناريو عربيًا معروفًا للاحتمال القائم قبل أشهر بأن يصل السيد ترامب إلى سدة الرئاسة، وماذا نحن فاعلون تجاه ذلك الاحتمال الممكن؟! من المهم ذكر أن مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية في جامعة الكويت نظم حلقة نقاشية في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، قرر فيها بعض المشاركين أن السيد ترامب هو القادم، وكان لوجهة نظرهم وجاهتها (نشرت تلك الحلقة النقاشية في تقرير)، إلا أن ذلك التوجه كان في الأقلية وليس الأغلبية، ولكنه أشار إلى السياسة الأكثر تحوطًا؛ أن تذهب دول الخليج إلى وحدة من شكل ما تحشد فيها الموارد، وتفتح فيها الفرص، من أجل توقُّع ما سوف تسير عليه الإدارة الجديدة، والفرصة المتاحة ليست أكثر من أشهر قليلة!
آخر الكلام:
يقول الفيلسوف الأميركي الساخر: إن العمل السياسي في أميركا هو شيء يمكن أن يُشترى بالمال!
صدقت