ا أحد يستطيع أبداً أن ينكر بأن الأنظمة العلمانية الحقيقية ما زالت حتى الآن أفضل نموذج للحكم في العالم رغم ما يأخذه عليها خصومها من مآخذ. وكما نعلم، ليس هناك نظام حكم عبر التاريخ كامل الأوصاف. حتى الديمقراطية نفسها وصفها الزعيم البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل ذات يوم بأنها «أفضل الأسوأ».
وكذلك الأنظمة العلمانية، لها ما عليها، لكنها تبقى الأفضل حتى الآن في إدارة الدول ذات العرقيات والطوائف والأديان والقوميات المختلفة، ولولاها لتحول بلد متعدد الأعراق والثقافات واللغات مثل الهند إلى محرقة عالمية، لكن النظام العلماني الذي حفظ حق كل مكونات المجتمع الهندي المختلفة نجح في الوصول بالهند إلى بر الأمان.
ولو حكم الهندوس في الهند ربما لما بقي هناك مسلم واحد في الهند، ولربما حصل الشيء نفسه للهندوس لو حكم المسلمون أو السيخ أو أي طائفة عرقية أخرى. لنكن واقعيين، مهما امتلك العقل الديني من انفتاح وتحرر، يبقى منغلقاً ومتعصباً لأفكاره وتوجهاته وأدبياته وتعاليمه، وهذا من شأنه أن يؤثر على سياساته تجاه الطوائف والأقوام التي لا تتبع ملته. وبالتالي، لا بد من وجود نظام متحرر تماماً من كل العقد الدينية، ويفصل تماماً بين الدين والدولة لتحقيق المساواة والعدالة بين أطياف المجتمعات المتنوعة والمتصارعة.
وكما يقول الإسلاميون إن الإسلام دين ودولة، يقول إسلاميون آخرون إن التاريخ الإسلامي لم يشهد وجود الدولة الإسلامية، لا بل يعتبرون أن الإسلام نفسه أكد على فصل الدين عن الدولة من خلال الحديث الشريف الشهير: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». ويستخدم البعض في العالم الإسلامي هذا الحديث للتأكيد على أن الفكر الإسلامي كان أول من دعا إلى تطبيق النظام العلماني. ورغم أن الإسلاميين لا يعتقدون أن هذا الحديث إثبات كاف ودليل دامغ على ضرورة الفصل بين الدين والدولة، إلا المجتمعات الحديثة أثبتت أن ذلك الحديث يجب أن يكون عماد الحكم. لكن أين العلمانيون العرب المزعومون من العلمانية الحقيقية؟
هل العلمانيون العرب علمانيون فعلاً بالمعنى الغربي للكلمة؟ أم أنهم بعيدون عن العلمانية الحقيقة بعد الشمس عن الأرض؟ لو نظرنا إلى تصرفات وأفكار من يسمون أنفسهم علمانيين، لوجدنا أنهم أسوأ من الدواعش، فالعلمانية الحقيقية لا تعادي الأديان مطلقاً، بل تسمح لكل أتباع الديانات السماوية وغير السماوية بأن يمارسوا طقوسهم وعباداتهم وثقافاتهم بكل حرية دون أدنى تدخل من الدولة العلمانية. ونحن نرى كيف يمارس المسلمون دينهم على أكمل وجه في البلدان الغربية تحت حماية النظام العلماني. لم نر فرنسا أو بريطانيا يوماً تدعو إلى حرمان المسلمين من حقوقهم الدينية. أما الحديث عن تضييق الخناق على بعض الأزياء الإسلامية في الغرب، فلم تكن لأسباب عقدية أبداً، بل لأسباب أمنية، فبعض المخربين كان يرتدي النقاب مثلاً كي يقوم بعمليات إرهابية. وهنا من حق الدولة أن تتدخل لحماية المجتمع من الذين يستغلون الأزياء الإسلامية لأغراض إرهابية. وحتى مسألة منع البوركيني في فرنسا لم تمر، فقد حكمت المحكمة العليا لصالح السيدة التي منعوها من السباحة بالزي الإسلامي. وهذا يؤكد على عظمة النظام العلماني وعدالته. هل كان لنظام ديني أياً كان نوعه أن يحكم بمثل هذه العدالة العلمانية؟ لا أعتقد.
أين العلمانيون العرب من التسامح العلماني الغربي الحقيقي مع أتباع الديانات السماوية وغير السماوية؟ إن غالبية العلمانيين أو بالأحرى العلمانجيين العرب هم أقرب إلى الفاشية منهم إلى العلمانية. هم ألد أعداء المسلمين، فبينما تعمل العلمانية الحقيقية على احتواء كل الطوائف تحت منظومة الدولة، نجد العلمانجيين العرب لا هم لهم أبداً سوى التحريض على الإسلاميين، لا بل لو استطاعوا لاستأصلوا واجتثوا الإسلاميين بالقوة الوحشية عن بكرة أبيهم. وقد شاهدنا ماذا فعل الاستئصاليون العلمانجيون في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي ضد الإسلاميين، فهم لم يكتفوا بالانقلاب عليهم عسكرياً، بل راحوا يقتلونهم حيث ثقفوهم بطرق وحشية.
أتساءل أحياناً وأنا أقرأ لبعض العرب الذين يسمون أنفسهم علمانيين: كيف تختلفون عن الدواعش وأنتم على طريقتكم التكفيرية تكفرّون الإسلاميين، وتعتبرونهم مارقين وشاذين، وتريدون أن تجتثوهم من على وجه الأرض؟ ألا ترون كيف تتصرف الأنظمة العلمانية الحقيقية مع الإسلاميين في الغرب؟ هل سمعتم يوماً دولة غربية تريد أن تمنع المسلمين من دخول المساجد، فما بالك أن تدعو إلى تغيير دينهم وإقصائهم من الوجود، كما تفعلون أنتم أيها الكلاب المسعورة يا من تسمون أنفسكم علمانيين؟ أين أنتم من المثل العلماني الغربي الرائع: «عش ودع الآخرين يعيشون»؟ لماذا تريدون أن تفرضوا أفكاركم «العلمانية» على الإسلاميين وغيرهم؟ كيف تختلفون عن الدواعش الذين يريدون أن يفرضوا أفكارهم على كل من لا يواليهم. بالأمس دخل داعش إلى مدينة منبج السورية، فراح يأمر كل رجالها بتربية اللحى، وما أن دخلت قوات سوريا الكردية التي تسمي نفسها ديمقراطية زوراً وبهتاناً إلى منبج وطردت داعش حتى راحت تطلب من كل الرجال أن يحلقوا لحاهم. ومن قال لكم إن كل من يربي لحية متدين أو داعشي. ألم يكن حبيبكم كارل ماركس صاحب لحية أكبر من لحية الدواعش، ولم يكن داعشياً؟ ما الفرق بين من يفرض عليك أن تربي اللحية، ومن يفرض عليك أن تحلقها؟ لا فرق أبداً. لماذا لا تتركون الحرية للناس على الطريقة العلمانية الحقيقية بدل تنصيب أنفسكم أيها العلمانيون قضاة على أفكار الناس ومأكلهم ومشربهم وملبسهم كالدواعش تماماً؟ العلمانيون العرب يقدسون الحريات الشخصية، ويزعمون أن من حق الناس أن يلبسوا أي شيء باستثناء اللباس الإسلامي المحتشم، ممنوع. العلمانيون العرب يسمحون لك بأن تمشي عارياً في الشوارع، لكنهم يعتبرونك شاذا إذا ارتديت لباساً إسلامياً محتشماً، فهذا بالنسبة لهم من الكبائر. العلماني العربي يريدك أن تلبس على هواه، وتأكل وتشرب على هواه، وتتصرف في كل شيء على هواه، ثم يحدثك عن الحرية والديمقراطية.
والله أنكم دواعش بلا ذقون بربطة عنق.
أضف تعليق