ما يقع في الإقليم العربي المفكك والمدمر يتميز بصبغته الموقتة، فـ «داعش» اليوم في الموصل، لكنه لن يكون فيها بعد غد، وسورية في حرب كبيرة وسط جريمة مرعبة، لم نستوعب مضمونها وآثارها، تمارس في مدينة حلب من قبل النظام وروسيا في واحدة من أسوأ حالات الحرب على السكان والأبرياء.
هذه الأحداث الجسيمة هي الأخرى ستلاحق المشاركين. روسيا اليوم في سورية وقد لا تكون بعد غد، وإيران في حرب على جبهات عدة وقد يتغير هذا في وقت آخر. في إقليمنا كل صفقة سياسية ووقف إطلاق نار تمهيد لمعركة أشمل. العالم العربي في شلل في ظل حروب والخاسر هو الإنسان العربي الباحث عن حقوق ومستقبل. في بعض الدول حكومتان وسلطتان، وفي دول أخرى الحكومة في مكان والسلطة الفعلية في مكان آخر. في العالم العربي سلام موقت واقتصاد ريعي يهتز بفضل أسعار النفط المتدنية. هذه اللحظة العربية أصبحت موقتة بأكثر مما يسمح به التاريخ.
ما يقع في العالم العربي نتاج لبنيان اهتز بسبب هرميته ومركزيته المقرونة بالارتجال وسوء الإدارة وضعف الحيلة. وقد دفعت حالة انغلاق النخب التي لم تواكب التطور الطبيعي لمجتمعاتها وللعالم لتعميق المشكلة. فالنخب العربية لم تجد في زيادة نسب التعليم في مجتمعاتها وتضاعف عدد السكان مرات ومرات ما يستوجب إتباع سياسات مختلفة، وهي قلما وجدت في ضعف البنى التحتية وضعف التمثيل والتعبير ما يستوجب علاج. فلدى النخب العربية صورة ثابتة عن الحكم وممارسته وأخرى ثابتة عن الطبيعة البشرية للشعوب العربية التي تحكمها، وهي تتفادى بذل الجهد لإعادة النظر في فهمها اللاتاريخي واللاواقعي للمجتمعات العربية.
لقد أصبحت المدن العربية ممتدة كالأرياف من شدة تحولها لتجمعات سكنية ضخمة جاءت من الريف، والأرياف تشبه المدن من سوء التخطيط فيها ومن التكاثر السكاني. كل شيء يتحول نحو البؤس والفقر في ظل نقص المياه وكثافة التلوث وسلوكيات الفساد. وفي الخضم قلما يتعامل النظام العربي مع الجذور التي تسبب عنفاً جنونياً. فالنخب مفصولة عن علم الاقتصاد والاجتماع والعلوم الاجتماعية الأخرى التي تؤكد أن المجتمعات تتحول للعنف وتثور لأسباب تقع في قلب البنيان السياسي الاجتماعي كما وتستمد التطرف من طبيعة السياسة في أوطانها. القمع يولد الاحتقان والدولة الأمنية تولد العنف والتطرف وقضية العدالة مدخل لثورات تتكثف شروطها.
لقد صعدت الهويات الصغرى في العالم العربي كتعبير عن فشل مشروع الدولة، وفي ظل تلاعب الدولة الوطنية في مكوناتها، فهي أحياناً قربت الهويات الصغرى الطائفية والقبيلة من النظام السياسي وأحياناً أبعدتها وحاولت تدميرها، وأحياناً لوحت لها وللمجتمع بالبطاقة الدينية وأحياناً الليبرالية، وهذا خلق حراكاً غاضباً في مكونات الهويات الداخلية. هذه الهويات تكتشف بأن نخبها لا عقيدة لها سوى تلك المرتبطة باحتكار السلطة مهما كان الثمن. لكن التاريخ يقول لنا إن الشرعية السياسية تتأثر عندما تكتشف الناس أن السلطة السياسية ضعيفة أمام الخارج، ركيكة أمام الفساد، وتعسفية في كل ما يهدد احتكارها من دون أدنى التفات لتنمية المجتمع والتمثيل ونوعية الحياة. في هذا تبدأ عملية سقوط الشرعية التاريخية، وهو ما أسس للحالة العربية الموقتة الراهنة.
الحالة الموقتة للعالم العربي تعني سواد المفاجآت في الزمن المقبل. فلا الحروب ستخاض ضمن بروتوكول وقيم وأخلاق، ولا الهويات تشعر بأنها شعب واحد في بلد واحد، كل شيء ينقسم لنقيضه ويتفتت لمكوناته. فعندما نشاهد كيف يقصف النظام السوري شعبه، نتساءل وهل يعتبر من يمارس الحرب ضد المدنيين بهذه الطريقة أي من المستهدفين بآلته الحربية جزءاً من شعبه؟ وعندما نتمعن في تفجير الكنسية على يد مصريين آخرين نفهم أن المفجر يعتبر من فجرهم خارج مجال تعريفه للإنسان!
لهذا فمن يقف اليوم في الميدان قد لا يقف غداً، ومن يخوض الحرب اليوم قد يخوض غيرها غداً. كل شيء قابل للتحول لنقيضه، كل انفجار يمهد للآخر، وكل موت يخلق المزيد منه، هذا مشهد لعالم عربي فقد المقدرة على التجديد وإصلاح الحال واستيعاب الجديد.
جاء الربيع العربي عام ٢٠١١، لكنه ذهب تحت ضربات نخب رفضت رسالته والظروف والأسباب الموضوعية والذاتية التي سببته. اتهام القوى الخارجية بالتسبب بالربيع العربي ضلل النظام العربي وسمح له بالاستمرار في أخطائه. لقد تحول الربيع العربي الذي حاربه النظام العربي للفرصة الضائعة الأخيرة التي كان يمكن أن تقود لإصلاحات جادة وأليمة تؤدي لبناء واقع أفضل جوهره استيعاب الشباب والأجيال الصاعدة. ومنذ ٢٠١١ لم يغير النظام العربي من حاله بهدف التعامل مع المشكلات المستعصية في المجتمعات العربية. الشباب العربي الذي ينضج الآن وسينضج بصورة أكثر كثافة في السنوات المقبلة الخمس سيكرر الربيع وثوراته، وهو جيل لن تنفع معه صيغ الأمن، خصوصاً عندما يكتشف أن العالم الذي يأتي إليه لن يقدم له تعليماً جيداً، ولا استقراراً حقيقياً، ولا كرامة ومستقبلاً، ولا حتى فرص للهجرة والهرب من واقعه، فالغرب أغلق الباب أمام الهجرة القادمة من إقليمنا.
سيكتشف الجيل الشاب أنه لن يستطيع التنقل حتى ضمن الدول العربية كما كان الأمر قبل عقد. سيعرف قريباً إنه محكوم في سجن كبير يحتوي على مدن مليئة بفنادق ومطاعم جميلة محاطة بحراسات أمنية مشددة لكنه لا يستطيع الاقتراب منها. هذا الجيل سيكون جزءاً من أكبر كتلة بشرية جيلية في التاريخ العربي كله. الموجة الثانية مقبلة وتوقيتها لن يبتعد كثيراً عن اللحظة الموقتة الراهنة، فالسنوات المقبلة تحتوي على الكثير من المفاجآت.
أضف تعليق