لم يعد الاختفاء القسري في مصر، مجرّد روايات مجهولة المصدر يتداولها الناس في الشوارع والمقاهي، فمن الممكن اليوم، أن تغيّب قسريًا لعدة أشهر، ويطالب أهلك والمنظمات الحقوقية بعودتك، ثم تظهر جثتك بعد أيّام، ممدّدة بجوار بيان لوزارة الداخلية يقول إنه تم القضاء عليك مع آخرين خلال اشتباك مسلح، وعلى جثتك آثار تعذيب، وربّما تظهر في تسجيل في مخفر الأمن، وأنت تعترف بارتكاب تفجيرات، وتنفيذ هجمات إرهابية، أو ربما لا تظهر أبدًا.
الشاب محمد سيد حسين زكي، حاصل على بكالوريوس علوم، أعلنت الداخلية عن مقتله خلال اشتباك مسلح في أسيوط، كانت أسرته قد أبلغت عن اختفائه قسريًا منذ شهرين، وبعدها ظهرت جثته وعليها آثار حروق وصعق بالكهرباء وجروح بآلات حادة في مناطق متفرّقة من جسده، وكانت الرصاصة الوحيدة في جسده مستقرّة خلف رأسه، أسفل أذنه اليمنى، بحسب شهادة مصطفى مشاري، صهر المتوفى.
من الممكن أيضًا أن تغيب قسريًا لعدة أيّام، ثم تظهر، في شريط فيديو بثته وزارة الدفاع المصرية، وأنت تعترف باستهداف محوّلات الكهرباء وقتل رجال شرطة والاعتداء على عدد من القضاة والمرافق الحيوية، مثل الشاب عمر محمد، الذي اختفى قسريًا لمدة شهر، ثم ظهر في قضية “أكبر خلية إرهابية تهدّد اﻷمن القومي”، وحكم عليه القضاء العسكري بالسجن المؤبّد.
وزارة الداخلية المصرية أعلنت يوم الجمعة الماضي، عن مقتل عشرة عناصر من جماعة “أنصار بيت المقدس”، وقالت إنهم نفّذوا هجمات ضد قوّات الأمن بالعريش، كان آخرها الهجوم على “المطافي” الأسبوع الماضي.
الخبر الذي كان يُفترض أن يلقى إشادة روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، أثار موجة من الاستنكار والسخط، وكال اتهامات لوزارة الداخلية بتصفية مواطنين خارج إطار القانون، بعد أن برزت شهادات تشير إلى تعرّض بعض ممن أعلنت الشرطة عن قتلهم إلى الإخفاء القسري، مثل الشاب محمد إبراهيم محمد أيوب (22 سنة)، المختفي قسريًا منذ ما يقرب من شهرين، والشاب عبد العاطي علي عبد العاطي، المختفي قسريًا منذ الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وغيرهم.
تاريخ الإخفاء القسري
منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013، والحديث عن الإخفاء القسري في مصر لا يتوقّف؛ عشرات التقارير الحقوقية المحلية والدولية تتحدّث عن الأمر، وعشرات الشهادات تروي فظائع ما يحدث خلال فترة الاختفاء.
للوهلة الأولى يعتقد البعض أن الإخفاء القسري ممارسة جديدة في مصر، لكن ببحث بسيط يتبّين أنها ارتبطت بالأنظمة السابقة، كل ما في الأمر أن معدّلاتها تسارعت بوتيرة أكبر، وأصبحت اليوم ظاهرة تستهدف الجميع دون استثناء، بعد صعود نظام 3 يوليو/ تموز إلى الحكم.
يقول الأستاذ عماد.م في حديث إلى”جيل”، إنه أخفي قسريًا لمدة 11 يومًا في عام 2006، في مقرّ الأمن الوطني في منطقة أبو زعبل، تعرّض خلالها لأنواع مختلفة من التعذيب، تشبه كثيرًا ما يرويه من ظهروا من المخفيين قسريًا هذه الأيّام.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، لم يتوقّف الأمر؛ فلجنة “الاختفاء القسري” التابعة للمجلس القومي لحقوق الإنسان تلقت شكاوى عن إخفاء أشخاص خلال أحداث ثورة يناير، مثل الشاب العشريني محمد صديق، الذي روت والدته لموقع “المنصّة”، أنه أُخفي قسريًا يوم “جمعة الغضب” 28 يناير 2011، وأنها تلقت منه اتصالًا هاتفيًا يوم تنحي مبارك، أخبرها فيه أنه حي يرزق لكنه رهن الاعتقال، قبل أن يقطع حديثهما شخص مجهول، انتزع منه الهاتف، وكال الشتائم لوالدته، ويختفي أثر محمد تمامًا إلى هذا اليوم.
في عهد الرئيس الأسبق مرسي، لم تتوقّف جريمة الإخفاء القسري أيضًا؛ عز العرب، أحد معتصمي الاتحادية، أُخفي قسريًا لمدة 14 يومًا، وُجد بعدها في قسم العناية المركزة بمستشفى على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، حسبما وثق “مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب” في تقرير له بعنوان “يوميات القمع بين حكم العسكر والإخوان المسلمين”.
تضارب أرقام
محاولة الوصول إلى إحصاء تقريبي لأعداد المختفين قسريًا منذ 3 يوليو/ تموز 2013 إلى الآن، تواجه العديد من العقبات؛ الغموض والتضارب ونقصًا للمعلومات كلّها عوائق تقف أمام الوصول إلى رقم واحد يمكن اعتماده، لكن بصفة عامة نستطيع القول إن الأمر تحوّل إلى ظاهرة دفعت منظمة العفو الدولية إلى إصدار تقرير قالت فيه “إن هناك ارتفاعًا غير مسبوق في حالات الاختفاء القسري في مصر” وإنه “أصبح أداة رئيسية من أدوات سياسة الدولة في مصر”.
وفق المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو مجلس شبه حكومي، فإن هناك 311 حالة تعرّضوا للإخفاء القسري في الفترة من أبريل/ نيسان 2015 ، إلى نهاية مارس/آذار 2016، لكن تقديرات أخرى تشير إلى تنامي الظاهرة بشكل أكبر بكثير؛ “التنسيقية المصرية للحقوق والحريات” وحدها رصدت 1023 حالة إخفاء قسري، خلال النصف الأوّل من عام 2015، فيما رصدت “المفوضية المصرية للحقوق والحريات” 912 حالة، بين أغسطس/ آب 2015 و2016 فقط.
تهرّب الموقف الرسمي
ينتهج النظام المصري، بكافة أركانه، موقفًا مائعًا من قضية الإخفاء القسري؛ يتراوح هذا الموقف المائع بين الإنكار والصمت والاعتراف على استحياء.
على المستوى الخارجي، دأبت وزارة الخارجية المصرية على تكرار أنه لا يوجد إخفاء قسري في مصر، وأنها مجرّد مزاعم يحقق فيها، متهمة من يتحدث عنه بأنه مشبوه وموجّه من جماعة الإخوان المسلمين لتشويه سمعة مصر دوليًا.
وعلى المستوى الداخلي، فتمييع القضية يأخذ عدة مستويات؛ المستوى الأول يتمثل في الصمت وعدم الرد على الاتهامات وكأنها ليست موجّهة إلى الداخلية، أما المستوى الثاني فهو مستوى الإنكار، حيث تنكر وزارة الداخلية وجود حالات إخفاء قسري وتؤكد أن الكلام عن الأمر “مؤامرة إخوانية”، والمستوى الثالث؛ الاعتراف على استحياء، مثل ما قالته الوزارة بعدما كشفت عن مصير 118 شخصا من المُختفين قسريًا، حيث قالت إنهم محتجزون لديها وفقًا للقانون وعلى ذمّة قضايا قيد التحقيق.
مستوى آخر للموقف الرسمي تجاه الظاهرة، يجسّده موقف المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي رفض توصيف الأمر بأنه “إخفاء قسري”، واكتفى بالقول إنه “احتجاز خارج إطار القانون”، فيما قال رئيس المجلس إن ما يُثار عن الإخفاء القسري الآن هو مجرد “تهويل” ولا يمثل ظاهرة اجتماعية، متهمًا التنظيم الدولي للإخوان بالخارج بإثارة القضية.
ما معنى أن تختفي قسريًا؟
يقول الحاكم العسكري الأرجنتيني خورخي بيديلا، في معرض ردّه على سؤال حول إن كانت الحكومة العسكرية بصدد الإعلان عن إجراءات خاصّة بموضوع المُغيّبين القسريين: “ليس بإمكاننا القيام بأيّ إجراءات خاصّة طالما هم مختفون، هم علامة استفهام، غير موجودين، لا هويّة لهم، لا وجود لهم، لا هم أحياء ولا أموات، هم ببساطة مختفون”.
هذا بالضبط ما يعنيه الإخفاء القسري؛ مصيرك مفتوح على كل الاحتمالات؛ من الممكن أن تُغيب قسريًا خلال فضّ ميدان رابعة العدوية، ثم تظهر بعدها بنحو ثلاث سنوات وأربعة أشهر في سجن “العازولي العسكري”، مثل الشاب عمر محمد حماد، الذي اكتشفت أسرته، منذ أسبوع فقط، وعن طريق شخص اختفى هو الآخر وظهر في سجن العقرب، أن ابنهم حي يرزق بعد كل هذه السنوات.
تقول منظمة العفو الدولية إن الإخفاء القسري “يستخدم كاستراتيجية لبث الرعب بين أفراد المجتمع، إذ لا يقتصر الشعور بانعدام الأمن والخوف الناجم عن الاختفاء القسري على أقارب الضحايا، بل يطاول المجتمع بأكمله”.
من هذا المنطلق يمكن القول أيضًا، إن ضرر الإخفاء القسري لا يقع على المُغيب وأسرته، ولكنه يطاول كافة أفراد المجتمع، فلا يوجد شروط أو قواعد تحكم عملية الإخفاء؛ التغييب القسري هو تجسيد للاقانون؛ ولا يشترط أن تكون ناشطًا سياسيًا معارضًا، ولا يشترط أن تكون من جماعة أو طائفة أو دين معيّن، ولا يشترط أن تكون فقيرًا أو غنيًا، حتى تقع في براثن التغييب القسري.
أضف تعليق