“فرنسا لا تساوي شيئاً بدون زيدان”.. كانت هذه الجملة، القصيرة البليغة المحكمة، بداية تعلّقي، وكثيرين من أبناء جيلي بالمعلّق التونسي الشهير عصام الشوالي. قالها الشوالي في نهائي كأس العالم 2006 بين البرازيل وإيطاليا، وظلت صامدة كحقيقة لا تقبل الجدال لسنوات طويلة؛ عجز خلالها منتخب الديوك عن تجاوز غياب الأسطورة زين الدين زيدان.
للشوالي مذاق مختلف، كنتُ في طفولتي أنتظرُ المباريات التي يعلّق عليها متلهفًا لسماع هذا الصوت المميز، وتلك المعلومات الغزيرة التي تفوّق بها على كثير من معلقي الوطن العربي.
مرت سنوات.. خفت بريق صاحب هذا الصوت. لم أعد متلهفًا لسماعه. ما زالت نكهته المميزة حاضرة لكنها لم تعد بالجمال ذاته، ألِفتُها.
ربما بات في حاجة لإضافة تفاصيل جديدة لشخصيته التي يطل بها علينا من خلف المايكروفون. أو ربما احتاج للتوقف قليلاً حتى يفارقنا الملل ويداهمنا الاشتياق.
مؤخرًا، تحول الاعتياد إلى رفض. نعم، أصبحت أكره هذا الصوت. فور سماعي صوت الشوالي أبحث بأقصى سرعة عن المعلق البديل، وإذا لم يكن هناك مُعلق يتحدث العربية، استمع للمباراة بالإنكليزية أو أقوم بـ”كتم الصوت”.
لم أترك الإعجاب واللهفة إلى الاعتياد والملل ثم الرفض والنفور دون سبب. دفعني الشوالي إلى الرحيل عن كتيبة المحبين والانتقال إلى خانة الكارهين في فترة قصيرة.
أسباب هذا الرفض يمكن تلخيصها في التالي:
الإزعاج: يتحدثُ الشوالي كثيرًا. أعلمُ أن المشاهد العربي لا يحب الفراغات التي يتركها مثلاً المعلقون الإنكليز للمشاهدين ليستمتعوا بالمباراة. نُحب المعلّق المتكلم المفوّه لكن قدرة الشوالي على التحدث تفوق في أحيان كثيرة قدرتنا على الاستماع. يتحدثُ حتى يمل الكلام، وحتى تباغتنا نوبات “الصداع” من كثرة ما يقوله.
يقول صديقي ساخرًا إن “الشوالي يتم حسابه وفقًا لعدد الكلمات التي يقولها في كل مباراة” ما يدفعه للتحدث كثيرًا طوال الـ90 دقيقة. الشوالي جعل الاستماع لمباريات كرة القدم أمرًا مُرهِقًا، فأنت برفقته لن تستطيع التقاط أنفاسك في تلك الفراغات التي تشهدها المباريات لإصابة أحد اللاعبين أو لأي سبب آخر.
الانحياز: لا أتحدثُ هنا عن المباريات التي بات إعلان الانحياز إلى أحد طرفيها أمرًا مستساغا، مثل مباريات المنتخب التونسي في حالة الشوالي، بل عن تلك المباريات، التي ننتظر فيها أن يؤدي المعلق مهنته وفق قواعدها وأصولها دون انحيازات.
يقرر الشوالي في أحيان كثيرة، مستفزًا قطاعات كبيرة من الجماهير، أن يُعلن انحيازه لأحد الفريقين. فيقول مثلاً: “سامحوني، أنا اليوم مشجع ولست مُعلّقا”.. هكذا دون خجل يعلن أنه يقف في صف فريق ضد آخر، وغالبًا يكون الانحياز للفريق الأقوى.
المصطلحات الأجنبية: قرأتُ قبل سنوات طويلة، تحديدًا في 2007، حوارًا للشوالي مع صحيفة مصرية، قال فيه إنه يجيد التحدث بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية بطلاقة.
إجادة هذه اللغات تساعد الشوالي على الإلمام بمعلومات كثيرة يعجز معلقون آخرون عن معرفتها؛ لكن لماذا وأنت تعلّق على مباراة باللغة العربية ويستمع إليك ناطقون بالعربية، لماذا تتحدث بلغات أجنبية؟
حين يكون الإيقاع سريعًا، وحين لا يترك الشوالي فرصة للمستمعين لالتقاط أنفاسهم، تبدأ كلمات بلغات أجنبية في التسرب إلى مسامعنا.
لماذا يقول “جولاثو” حين يُسجَّل هدف في مباراة بالدوري الإسباني؟ لماذا نسمع جملاً طويلة بلغات أجنبية لا نفهم منها كلمة واحدة؟ إلى من يتحدث الشوالي؟ هل هي الرغبة في “الاستعراض” أو “فرد العضلات” كما يقولون بالعامية المصرية؟ أم أن الشوالي يظن نفسه معلقًا لمستمعين أجانب؟
الاحتمالات: يحاول معلقون كثيرون خلق مساحة للتفاعل بينهم وبين الجمهور؛ على سبيل المثال يتوقع المعلق شيئًا وحين يتحقق يقول للجماهير إن توقعاته كانت في محلها إلى غير ذلك.
في حالة الشوالي الأمر مختلف. يضع المعلق التونسي كل الاحتمالات أمامنا. القوسان مفتوحان على احتمالات لا حصر لها، فصاحب الأرض سوف يستفيد من دعم الجماهير، والضيف سوف يباغته بهدف مبكر، والمباراة سوف تستمر سلبية دون أهداف، وستشهد أيضًا أهدافًا كثيرة.
وحين يتحقق أحد تلك الاحتمالات، يباغتنا الشوالي بجملته التي تتكرر في كل مباراة “ألم أقل لكم إن…”. دائمًا تصدق توقعاته، لأنه يتوقع حدوث كل شيء.
الكوميديا: خفة الظل رزق. والشوالي ليس خفيف الظل وهذا لا يعيبه. هو مُعلق موسوعي غزير الإطلاع في المقام الأول. الشوالي ليس محمود بكر صاحب “الإفيهات” القاتلة. وليس “ميمي الشربيني” الذي يباغتك بخفة دم رصينة وبليغة بين الحين والآخر، لكنه يحاول أن يكون “مُضحِكا”.
يستعين الشوالي بقاموس العامية في بلدان عربية مختلفة، خاصة القاموس المصري الأكثر شيوعًا؛ لكن استدعاء “الإفيه” أو “الجملة المُضحكة” يكون غير موفق في الغالب. وأبرز تلك الأمثلة حين قال وكرر “جيرارد مش عاجبني يا أم جيرارد” معلقًا على أداء ستيفين جيرارد أسطورة ليفربول في إحدى المباريات.
الشعر: الكلام المُنغم يُطرب الأذن، والجمل التي تنتهي بنفس القافية تحفظها الذاكرة بسهولة. الشوالي يميل للإكثار من هذه الجمل إلى حد يجعلك تتساءل: هل أستمع إلى مُعلق كرة قدم؟ أم إلى شاعر ضل طريقه؟
في كثير من الأوقات تكون تلك الجمل بلا معنى. لكن الشوالي لن يتوقف، سوف يبحث سريعًا في قاموسه عن جمل بنفس الوزن والقافية. سوف تستمع إلى جمل من عينة “ما هذه التمريرات. انظروا إلى التحركات. قاله خد قاله هات… إلخ”.
اللُب والقشور: حين تستمتع إلى الشوالي، سيذهب بك إلى حربٍ دارت في عصور سابقة بين البلدين المتواجهين على أرض الملعب. سيحدثك عن شاعر كبير يتطابق اسمه مع اسم أحد اللاعبين، وعن النجاحات الكبيرة التي حققها أحد الأندية في الستينيات أو السبعينيات.
الحديثُ عن المباراة التي يعلق عليها سيشغل حيزًا قليلًا للغاية. وهذا الحيز يخلو، مع الأسف، من الحديث الفني، فهو في الغالب لن يهتم، أو لن يقدر، على الحديث التفصيلي عن خطط اللعب وعن التعليمات الفنية من المدربين وعن “الجُمل” التي يتم تطبيقها خلال المباراة.
يترك الشوالي “اللبُ” ويتفرغ للحديث عن “القشور”.
أضف تعليق