أقلامهم

فرص النجاح أمام المقاومة الأميركية لسياسات #ترمب

بعد إلقائي محاضرة في ٢٨ الشهر الماضي في جامعة هارفارد حول التغيرات التي تعصف بالعالم العربي، وبينما كنت أسير عبر الممرات في كلية كينيدي، إذا بي عند مدخل قاعة واسعة يتجمع فيها مئات الطلبة والطالبات في الجامعة. فاجأني عنوان الندوة: «قادة المقاومة الأميركية». سألت ممازحاً السيدة هيلاري الرنتيسي التي تنظم أعمال مبادرة الشرق الأوسط في الجامعة والتي وجهت لي الدعوة لإلقاء المحاضرة: «أين نحن، هل في جنوب لبنان أو ربما في مكان ما من فلسطين أم في إحدى دول الربيع العربي؟».

دخلت ”قياديّات المقاومة“ القاعة بهدوء، كنّ في العشرينات من العمر ومن النمط الميداني، فتيات من خلفيات مختلفة وتجارب شتى. تحدثت كل منهن عن تجربتها في المقاومة الأميركية التي انطلقت بزخم وبوسائل سلمية منذ انتخاب الرئيس ترامب. هذه المقاومة تركز على حقوق الملونين والأقليات والمرأة وإبعاد الأجانب والتصدي لاضطهاد المسلمين والسياسات العنصرية. إنها مقاومة من أجل المساواة بين الأعراق والديانات والأفراد في ظل نظام ديموقراطي. والأهم أن هذه المقاومة تتحد، مع اختلاف جذورها، على التصدي لترامب، الذي يشكل بأخطائه ومغالاته ولغته وجموحه وأسلوبه في الحكم بواسطة الأزمات بعداً موحداً لعناصر وفئات المجتمع المدني في الولايات المتحدة.

المتحدثات في تلك الندوة بدأن أنشطتهن السياسية ضمن قواعد الحزب الديموقراطي في حملة برني ساندرز وفي حملة هيلاري كلينتون، وبعضهن عملن في الكونغرس كمساعدات لأعضاء ديموقراطيين. الأهم أن كلاً منهن وصلت لنتيجة مفادها بأن المؤسسات الديموقراطية والحزبية الأميركية فشلت في حماية الحلم الأميركي عندما سلّمت الدولة والمجتمع لعتاة اليمينيين والعنصريين. لهذا قررن أخذ الموضوع بصورة شخصية وقبول التحدي. وليست كل المقاومة الأميركية من الديموقراطيين، ففي الولايات المتحدة قاعدة للمحافظين ممّن يخشون على مستقبل الحزب الجمهوري من سيطرة أقصى اليمين وذوي الطروحات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض على البيت الأبيض.

هؤلاء المحافظون يحرصون على قيم التنوع والحرية، ويجدون في مدرسة ترامب سلوكاً غير أميركي يمثل خطراً على مستقبل الولايات المتحدة. هؤلاء أيضاً بدأوا الانضمام للمقاومة ضد ترامب انطلاقاً من رؤى دستورية وحقوقية. لكن دور المحافظين في المقاومة ما زال ضعيفاً، وإن كان يتوقع أن يكتسب زخماً في مرحلة قادمة.

تحدثت في الندوة جيس موراليس ريكيتتو، وهي شابة في العشرينات من عمرها أسست منظمة بإمكانات بسيطة أطلقت عليها اسم ”احتلال المطارات“. واستهدفت عملية ”احتلال المطارات“ منع دخول المسلمين من ست دول إسلامية الى الولايات المتحدة. بدأت الفكرة في مطار نيويورك، ثم وجدت جيس ريكيتتو أنها يجب أن توجه جهودها وجهود فريقها الى كل المطارات الدولية في الولايات المتحدة. لهذا أرسلت التعليمات عبر التواصل الاجتماعي لكيفية «احتلال» المطارات، وقامت مع فريقها بتنسيق تجمعات للناس ولحركة المركبات بحيث يستطيع كل من يريد أن يتجمع في مطار أن يجد طريقة للوصول الى قاعات الاستقبال والانتظار هناك لساعات وأيام. وتم التنسيق مع محامين في كل المناطق للتوجه الى المطارات. لقد حولت هذه المبادرة المطارات الى ميادين تحرير، وهذا شكل ضغوطاً كبيرة على إدارة ترامب.

لكن منظمة «إنديفيزيبل» Indivisible التي أسستها ليا غرينبيرغ مع قيادات شابة أخرى ركزت على تحدي لقاءات أعضاء الكونغرس مع قواعدهم الانتخابية في ولاياتهم ومناطقهم. طرحت «إنديفيزيبل» برنامج عمل ودعت كل الناس للتجمع والذهاب بأعداد كبيرة للمشاركة في كل لقاء يجريه كل عضو من الكونغرس مع قاعدته الانتخابية. مجيء المشاركين المحتجين بالمئات من الشبان والشابات لكل تجمع في القواعد الانتخابية شكل ضغطاً كبيراً على ممثلي الشعب المنتخبين والمتهمين بالتخاذل في قضايا جوهرية تتعلق بالحقوق والعدالة وسياسات البيض. لقد تم تحميل خطة العمل التي طرحتها منظمة «إنديفيزيبل» على الانترنت من جانب ما يقارب ١،٧ مليون أميركي، وتأسست حول هذه المبادرة سبعمائة مجموعة عمل في الولايات المتحدة. إن تركيز «إنديفيزيبل» على التصدي لأعضاء الكونغرس وإحراجهم أمام ناخبيهم هو الهدف الأساسي من الحملة. في إحدى الحالات هرب عضو الكونغرس من الجموع الغاضبة والناقدة، فما كان من «إنديفيزيبل» إلا وأن وضعت له صورة وكأنه موجود. هكذا وجه الجمهور نقده وهجومه نحو الصورة. هذه اللقاءات مفتوحة لكل أجهزة الإعلام، وهذا الوضع أضعف مصداقية كثيرين من أعضاء الكونغرس المنتخبين بخاصة عند عجزهم عن مواجهة نقد الحاضرين وتساؤلاتهم المشروعة.

في هذا كله تتغير الديموقراطية الأميركية بسبب ظواهر تدفع بها نحو العمق وتوسيع المشاركة لتصل الى أبعد الفئات والناس عن المشاركة السياسية والانتخاب. الحراك الأميركي المعارض يحمّل كل مواطن مسؤولية المحاسبة وتأمين الحقوق والحريات. هناك إجماع على أن أميركا يجب أن لا تخضع للمكارثية مرة ثانية وأنها يجب أن تتصدى وتقاوم لحماية ديموقراطيتها. هكذا يكتشف الشعب الأميركي أن التصويت لا يكفي ويجب تحميل ممثلي الشعب المسؤولية عن حماية المكتسبات الدستورية.

باربرا كليفر مثلت جانباً آخر لا يقل أهمية في عملية المقاومة لمشروع ترامب، فهي تقود منظمة اسمها «انتخب». هذه المؤسسة تركز على استنهاض الأميركيين للمشاركة في انتخابات الكونغرس وغيره من المؤسسات السياسية في الولايات في العام ٢٠١٨، اذ لا يكفي أن يغضب الناس، وفق باربرا كليفر، بل السؤال الأهم مرتبط بخطة عملهم لخلق فرص للتغيير. وتقوم هذه المؤسسة عبر الولايات المتحدة باستهداف كل ناخب، بخاصة الكتل التي لا يعرف عنها أنها تشارك في الانتخابات. والواضح أن تكلفة هذا المجهود محدودة، فمعظم الحملات تعتمد على وسائط التواصل الاجتماعي وفاعليتها.

من جهة أخرى، تحاول الناشطة أماندا ليتمان من خلال تأسيس منظمة اسمها: «ترشح من أجل شيء» تحفيز الشباب والشابات على الترشح للانتخابات في الولايات المتحدة، فقلعة المقاومة هي المدن الأميركية حيث الغالبية، كما أن السعي لبناء ميزان قوى في مجالس المدن المنتخبة هدف أساسي للحراك الأميركي. هذا الحراك يمهد لتمرد المدن على الرئيس في المرحلة القادمة. هذه المنظمة الخاصة بالترشح تقول التالي: الرئيس ترامب انتخب وهو لا يملك الكفاءة ولا الصدقية ولا الأمانة. لهذا تذكر هذه المنظمة كل شاب وشابة بأنهم يتمعتون بالذكاء والأخلاق والثقافة وخاصية الاستماع التي لا يتمتع بها رئيسهم. لهذا فإذا كان الرئيس ترامب قد فاز بقدراته المتواضعة، فكل منهم قادر بالتالي على الفوز بحكم أن معظمهم يملك قدرات أكثر تقدماً.

وتمثل منظمة انتشرت في الولايات المتحدة عبر مؤسستها اندريا هيلي (وهي عبارة عن مبرة) محاولة جادة لمساعدة من يترشحون من الشبان والشابات على الحصول على دعم شعبي ودعمهم بالخبرات التي تؤمن لهم فرص نجاح. مشكلة الديموقراطية الأميركية تكاليفها المرعبة، وسيطرة جماعات الضغط والتمويل، وهذا يمنع الكثيرين من الترشح. وهدف هذه المنظمة كسر هذا الجمود بدعم المرشحين شعبياً وبالخبرات وبجعل تكاليف الترشح أبسط. وهذا بدوره يفتح الباب للكفاءة والقدرات بدل احتكار الانتخابات من جانب أصحاب المال والخاضعين لرأس المال وأصحاب المصالح. على سبيل المثل، نجحت حملة برني ساندرز بتكاليف بسيطة في اكتساح ٢٠ ولاية اثناء المنافسة ضمن قواعد الحزب الديموقراطي مع هيلاري كلينتون. وحملة ساندرز لم تكلف جزءاً بالمائة من حملة هيلاري كلينتون. وهذا تأكيد لإمكان إدارة حملات انتخابية تعتمد على وسائط التواصل وتتواصل مع الجمهور بصورة مباشرة وتقلل تكاليف الإعلانات التلفزيونية.

لقد تأسست في الولايات المتحدة أكثر من خمسين منظمة تتبنى فكرة المقاومة، فهناك منظمات تعمل مع الأقليات بصورة مباشرة وأخرى مع الملونين والنساء ومع ذوي الأصول اللاتينية أو مع الفئات التي لا تحمل أوراقاً ثبوتية أو مع الآسيويين الأميركيين. الأهم أن نعي أن الولايات المتحدة تتغير، وأن الحراك الأميركي يكتسب الكثير من المصداقية في الشارع. هذا لا يعني أن المجتمع غير منقسم، بخاصة مع وجود تيار عنصري يؤمن بصراع الحضارات والتفوق الأبيض ويمثل خطراً على نفسه وعلى العالم. في المقابل، التيار الأميركي المقاوم هو الآخر في طور النمو وهو مع الوقت قادر على استنهاض غالبية مريحة لمصلحة موضوعاته. النموذج الأميركي للمقاومة سيكون بشكله الصاعد نموذجاً للمقاومة غير العنيفة، وهذا سيجد له انعكاساً في العالم كما في العالم العربي. ما يقع في أميركا سيؤثر في العالم بأكثر مما نعتقد ونتوقع.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.