كان العراق محكوما من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي قبل الاحتلال الأمريكي عام (2003) ، وهذا الحزب كان من الأحزاب الشمولية و الديكتاتورية المعروفة التي تعمل على السيطرة الكاملة على كل مرافق الدولة و التفرد بالحكم و صياغة القوانين و النظم و الشرائع وفق نظرية البعث التي تعتبر أيدولوجية القومية العربية التي تسعى للنهضة و تهيئة الأمة العربية عن طريق إنشاء حزب واحد يقود الأمة و يمنع التعددية السياسية و يعاقب من ينتقد أو يواجه الحزب الحاكم الذي يأخذ على عاتقه مسئولية إنقاذ وتطوير الأمة.
ومن المبادئ الرئيسية لحزب البعث هو محاربة مظاهر التدين في المجتمع لأن الحزب اشتراكي علماني و بالتالي يسعى لفصل الدين عن الدولة و منع مظاهر التدين في المجتمع و علمنة المجتمع بشكل تدريجي في كل المحاور و المجالات ، وهذه التعاملات من قبل حزب البعث العراقي تسببت في تمسك المجتمع بالمظاهر الدينية وفق قاعدة (كل ممنوع مرغوب) و أصبح المواطنون يعجبون بأفكار الأحزاب و الجماعات المعارضة التي كانت ترفع الشعارات الدينية، وكان المواطن يأمل بوصول هذه الأحزاب المعارضة إلى السلطة في توفير الحريات الرئيسية و حماية الحقوق و الحريات و توفير الحياة الآمنة و التخلص من حكم الحزب الواحد الذي حول نصف المجتمع إلى جواسيس و النصف الآخر إلى مخبرين و عبيد عند السلطة و حارب الرأي المخالف و اغتال الأصوات المعارضة وشكل مملكة من الخوف و الرعب.
خلال هذه الفترة نشطت العديد من الجماعات و الأحزاب الإسلامية التي كانت تعادي النظام العراقي السابق و تحارب عقيدة البعث و ترفع شعارات براقة و جذابة نجحت من خلالها من التأثير على المواطنين و كسب المعجبين لشعاراتها ، ولكن هذه الشعارات ظلت في النطاق النظري إلى أن سقط النظام العراقي السابق في عام (2003) و وصلت هذه الأحزاب الدينية إلى الحكم وهذا الأمر كان بمثابة اختبار لهذه الأحزاب و إمكانية قدرتها على إدارة المجتمع .
بعد سقوط حزب البعث ، وصل الحكم فورا إلى الأحزاب الإسلامية على طبق من ذهب، وهذا كان الاختبار الأول أمامها حتى تثبت قدرتها على الحكم و الإدارة و بناء دولة ديمقراطية تحترم الإنسان و تحقق أحلام المواطن العادي الذي كان يحلم بالتغيير و الوصول إلى حقوقه المشروعة ، ولكن الذي حصل هو العكس تماما، فالأحزاب الإسلامية التي حكمت و دخلت في العملية السياسية فشلت في الامتحان و عجزت عن توفير متطلبات المواطن و فشلت في تحويل شعاراتها البراقة إلى أفعال و إنجازات حقيقية على أرض الواقع ، و فشلت في إيجاد الحلول للأزمات و المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية و السياسية ، و ارتكبت نفس أخطاء النظام السابق و لكن تحت شعارات إسلامية و بغطاء ديني في سبيل تخدير المجتمع و إطالة فترة الحكم و السيطرة .
بعد (14) عاما من وصول هذه الأحزاب إلى الحكم نرى بوضوح إرثا من النهب و الفساد السياسي و الأخلاقي و الإداري ، و إرث من الإقصاء و القمع و الفوضى و الدمار ، حتى وصل الأمر أن يتمنى المواطن عودة النظام السابق لأنه أصبح يعاني من مشاكل عديدة لم تكن موجودة في السابق ، و بسبب هذه السياسات الخاطئة و نتيجة لحكم هذه الأحزاب الإسلامية حصل توجه معاكس يدعوا للعلمانية و لمحاربة التوجهات الدينية و منع الأحزاب الدينية بالكامل بسبب نتيجتها السيئة في الحكم و نجحت هذا التوجه في الترويج لنفسها عند الجمهور .
ولكن المواطن العراقي قام بتجربة حكم العلمانيين والقوميين سابقا و الإسلاميين الآن و أدرك خطورة هذه الأحزاب التي تنجح فقط في رفع شعارات مثل(الإسلام هو الحل، توحيد الامة العربية، تحرير فلسطين …. الخ) من الشعارات، بينما فشلت في الواقع و عجزت عن تقديم نموذج صحي للحكم.
في ظل هذه الظروف من الضروري التوجه لخطاب معتدل يقوم على أساس توحيد المجتمع وليس تمزيقه ، و التنافس على خدمة المواطن وليس على خداعه ، و صياغة سياسات اقتصادية مناسبة توفر للمواطن العيش الرغيد ، وكل هذه المتطلبات يمكن تحقيقها عن طريق الأحزاب البرامجية التي تعتمد على بعض المبادئ و الأسس التي تعمل على تأسيس مجتمع قوي و متماسك و واعي .
الحزب البرامجي لا يكون على أساس أيديولوجي ولا يستخدم المصطلحات الإسلامية أو الأيديولوجية ولا يرفع الشعارات الدينية بل تتأسس على أساس تبني خدمة المجتمع و تقديم المشاريع الخدمية و جعل المواطنة هي المعيار الأول و الأساس و بالتالي عدم تقسيم المجتمع على الأساس الأيديولوجي وبناء مجتمع سليم و نشر قيم التعايش و التسامح و تشكيل أرضية قوية للعمل المشترك بين الجميع و الرؤية المشتركة وعدم التمييز بين المواطنين و تحويل النزاعات و الصراعات الأيديولوجية إلى المنافسة السياسية الشريفة .
ويقوم هذه النظرية أيضا على تنظيم العلاقة بين الدعوة و السياسة وليس الفصل بين الدين و الدولة، عن طريق انشغال كل شخص بمجاله و اختصاصه و بالتالي ينجح الفرد في الإبداع في مجاله و لا يتدخل في شؤون غيره ، و من خلال هذه الخطوة ينتهي عملية استعمال الأحزاب الإسلامية لرجال الدين في سبيل كسب الأصوات في الانتخابات و بعدها يصلون إلى السلطة في البرلمان أو الحكومة وهم عاجزون عن تقديم مشاريع قانونية أو الإبداع في مجالهم لأنهم كانوا منشغلين في مجال آخر و لا يستطيعون التعامل مع هذا المجال الجديد الذي وقعوا فيه.
هذا التوجه نحو الأحزاب البرامجية إحدى طرق الحل للعراق المستقبلي حتى يضع حدا للاستبداد و الفساد و يعيد للمواطن قدره و قيمته ، و بدون إدراك هذه الحقيقة يبقى الشعب مغيبا و يستمر مسلسل تداول السلطة بين الأحزاب الفاشلة و يستمر الدولة في التخلف و التراجع.
أضف تعليق