الكويت شأنها شأن أي بلد آخر تتنازعه قوى اجتماعية مختلفة ذات مصالح متباينة؛ وتتوزع داخله اتجاهات فكرية وسياسية متعددة؛ ويشهد صراعات وتناقضات وانقسامات تشتد حيناً وتخفت حيناً آخر، وليس في ذلك أي غرابة، فهذه هي قوانين الحياة ومسار المجتمعات البشرية.
ولكن في مقابل ذلك كله علينا أن نعي جيداً الأوضاع الخاصة للكويت والتحديات الاستثنائية التي تواجهها… فالكويت دولة صغيرة ذات بنية جغرافية سياسية هشّة تعيش ضمن واقع إقليمي مضطرب، سبق أن تعرضت أكثر من مرة عبر تاريخها الحديث والمعاصر إلى التهديد والغزو، بل عانت الاحتلال ومحاولة محوها من الخارطة وإلغاء كيانها، ولا أخالها اليوم في مأمن من الاستهداف… والتحدي الآخر الذي يجب أن ندركه يتمثّل في محدودية وقصر الفرصة التاريخية المتاحة أمامنا للاستفادة التنموية وليس الاستهلاكية من الثروة النفطية الناضبة ذات يوم إما جراء الاستنزاف المتواصل أو في حال النضوب التقني عبر احتلال مصادر الطاقة البديلة موقع الصدارة بدلاً من النفط…
والتحدي الثالث، أنّ الكويت التي كانت في عقدي الستينات والسبعينات من القرن العشرين تحتل موقع الصدارة بين دول المنطقة الخليجية أصبحت اليوم، مع الأسف كله، في ذيل القائمة وفق العديد من المؤشرات المتصلة بالتعليم والاقتصاد والتنمية والإدارة والبنية التحتية، ولم يكن هذا التراجع صدفة، وإنما هو نتيجة طبيعية لتحكّم المصالح الضيقة والعقلية المتخلفة للقوى المتنفذة، وما نتج عنه من تخلٍّ عن مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة؛ إن لم نقل محاولة تعطيله وتخريبه، وما أدى إليه ذلك من تكريس لنهج الانفراد بالقرار وسوء الإدارة السياسية للدولة وإفساد ورعاية للفساد، ولا حاجة هنا للتفصيل فالشواهد معروفة…
إلا أنّ هذا كله يجب ألا يحول بيننا وبين معرفة نقاط القوة والتميّز في واقعنا الكويتي، بدءاً من حيوية الكويتيين وروحهم الوطنية التي برزت في الملمّات وعقليتهم العملية، مروراً بالموقع الجغرافي المهم لبلادنا، وهو الأساس في كون الكويت طوال حقبة ما قبل النفط ثم في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي ميناءً نشطاً ومركزاً تجارياً حيوياً في المنطقة، وصولاً إلى خصوصية التطور السياسي الكويتي المتميّز عن بقية دول المنطقة الخليجية، حيث شهدت الكويت قيام أول نظام حكم دستوري في المنطقة ليس في بداية الستينات فحسب، وإنما قبلها في التجربة الرائدة للمجلس التشريعي ونظام الحكم الدستوري في نهاية الثلاثينات، وهنا لابد من القول إنه على خلاف ما يروّجه كثيرون فقد كان الوضع الدستوري ركيزة مهمة للاستقرار فيما كان التعدي عليه وتجاوزه نقطة البداية في الانحدار، ولست بحاجة للإطالة في تناول ما كانت تعنيه عودة العمل بالدستور خلال فترة الاحتلال عبر المؤتمر الشعبي في جدة، وما كان يمكن أن تؤول إليه الأوضاع جراء أزمة الحكم في العام 2006 لولا الاحتكام إلى الآليات الدستورية.
وبعد استذكار كل ما سبق، فإنّ مشكلة الكويت اليوم ليست في وجود تناقضات وصراعات ولا فيما تواجهه من تحديات، فالتناقضات والصراعات والتحديات هي دوماً سبل المجتمعات الإنسانية نحو التطور والرقي، ولكن المشكلة في الكويت تكمن في أننا ندور منذ سنوات ولا نزال في حلقة مفرغة أرهقتنا جميعاً وبددت طاقاتنا من دون طائل أو جدوى، وحان الوقت إن لم يكن قد طال انتظاره للبحث عن مَخْرج ينهي هذا الدوران العقيم… فالصراع السياسي في الكويت منذ العام 1962 ولا يزال يدور في المربع الأول نفسه، فلئن فشلت المحاولات المتكررة للانقلاب على الدستور؛ فإنّ نصوص الدستور التي بقيت على ما كانت عليه تعرضت للانتهاك والتفريغ من مضامينها الديموقراطية عبر ترسانة من القوانين المقيدة للحريات… وهناك اليوم صراعات بين الطامحين ضمن الأسرة، ولكنها صراعات فاقدة للمعنى بين أشخاص لا تفاضل بينهم ولا مشروعات لديهم غير «أجنداتهم» المتصلة بالطموح الشخصي… وهناك مجالس وزراء متعاقبة فيما الحكومة ثابتة، ولكنهما يفتقدان معاً رجال الدولة، ويمتلكان أرصدة متضخمة من الفشل المتلاحق والعجز الصارخ…
وهناك انتخابات متواترة تتبدل فيها الوجوه وتتغير الأسماء، بينما تتكرر في مجالس الأمة الممارسات والنواقص ذاتها، لسبب بسيط وهو أنها جميعاً تقوم بالأساس على العمل الفردي سواء في الانتخاب والترشيح أو على مستوى ممارسة أعمال الرقابة والتشريع… وهناك أنشطة سياسية وناشطون سياسيون ولكن من الصعب القول إنّ لدينا حياة سياسية سليمة… لدينا تجمعات وقوى سياسية تحت مسميات مختلفة ولكن معظمها، وليس جميعها، يفتقد الرؤية والمشروع البديل والكيان المؤسسي، ويحصر همّه الأول في الانتخابات والتمثيل النيابي، في الوقت الذي انسد فيه عملياً أفق الإصلاح والتغيير عن طريق البرلمان وحده…
وشهدنا في الكويت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة العديد من الحراكات الشعبية، التي كانت سمتها الأساسية الاحتجاج على قرار أو الاعتراض على مرسوم أو قانون أو تركزت حول الدفاع عن مكتسب مُهدد بالانتقاص منه؛ فيما لم ينطلق أي حراك جدي باتجاه التقدم ببرنامج محدد إلى الأمام على طريق استكمال التطور الديموقراطي، ولا أقصد هنا الشعارات وحدها… هذا ناهيك عن أنّ عدداً ممن ادعى الدفاع عن الدستور والحريات من بين صفوف المعارضة أو المعارضات لم يكن بالأساس مؤمناً بالديموقراطية قيماً ومبادئ، وإنما كان يتمسك فقط بشعارات المشاركة الشعبية والحريات السياسية ويتجاهل أو يرفض قيم الديموقراطية ومبادئها… وتم تأميم النفط منذ أكثر من أربعين عاماً فيما زاد مع مرور السنوات اعتماد الشركات النفطية الكويتية على الشركات النفطية الأجنبية…
ولدينا قطاع خاص يطالب بالخصخصة فيما هو يعتمد في وجوده بالأساس على الإنفاق الحكومي… ولدينا رأسماليون ولكنهم في الغالب يرفضون الإقرار بأبسط متطلبات الوظيفة الاجتماعية للرأسمال المقررة في الدستور والمتمثلة في تمويل الميزانية عبر الضريبة على الدخل وتوفير فرص العمل للشباب الكويتي… ولدينا نقابات وجمعيات نفع عام وجمعيات تعاونية جرى حرفها عن أهدافها الحقيقية… لدينا حركة طلابية ابتعدت عن دورها وأصبحت ساحة خلفية للانتخابات الفرعية… ولدينا طاقات شابة جرى تعطيلها… لدينا دستور أعمى تجاه الانتماء الطائفي والقبلي والعائلي والمناطقي للأفراد، ولدينا قانون لحماية الوحدة الوطنية، فيما يجري على الأرض تسعير الطائفية وتأجيج النعرات القبلية وتكريس العصبيات العائلية على نحو غير مسبوق… وهناك عشرات الآلاف ممن تقر الحكومة استحقاقهم للجنسية فيما هم محرومون منها… ولدينا وسائل إعلام تحوّل معظمها إلى أبواق للزعيق يفتقد أبسط مقومات المهنية.
والأسوأ من هذا كله، أنّ الكويت تشهد منذ العام 2011 أزمة سياسية محتدمة، ولكن هناك حالة إنكار وتجاهل، إنكار وتجاهل لحقيقة أنّ هذه الأزمة قابلة للتفجّر ذات يوم عندما تتبدل موازين القوى أو تختل لسبب داخلي أو خارجي… فالسياسة واقع متحرك، وواهم مَنْ يظن أنّ الأمور ثابتة ومستقرة، وسيأتي وقت لن يفيد فيه المال في الاسترضاء، بل قد يشح المال ومن المؤكد فإنّ العاجز عن إدارة الأمور بحكمة ورشاد في زمن الرخاء سيعجز عن إدارتها في زمن الشحّة، وسيأتي جيل لن يقبل بما هو قائم، ولن يسكته فتات المائدة، وستشتد في المجتمع التناقضات وتتفاقم المشكلات بحيث يصعب التحكّم فيها، والخشية أيضاً أن تتحوّل بلادنا، مثلما هي بلدان أخرى صغيرة في المنطقة العربية، إلى ساحات لصراع أجندات أطراف دولية أقوى أو دول إقليمية أكبر.
إنّ الكويت اليوم أحوج ما تكون إلى تصحيح المسار، وهذا التصحيح تقع مسؤوليته الأولى على مَنْ بأيديهم السلطة، وبعدهم هي مسؤولية النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنقابية.
والخطوة الأولى لتصحيح المسار هي الاعتراف بالخطأ والإقرار بالمشكلة بعيداً عن المكابرة والإنكار… ثم تأتي الخطوة التالية المستحقة وهي توفير المُناخ الملائم للتداول في كيفية تصحيح المسار وآلياته، وهذا ما يتطلب انفراجاً سياسياً جدياً يشمل إلغاء كل متعلقات المعالجات الأمنية والتشريعات الاستثنائية التي ألقت بظلالها السوداء على الكويت خلال السنوات الأخيرة، ما يعني إطلاق الحريات العامة، وإعادة الجنسية الكويتية لمن شملته قرارات الإسقاط والسحب والفَقْد لأسباب سياسية، وصدور قانون بالعفو الشامل عن قضايا الرأي والتجمعات، وفتح الباب أمام توافق وطني حول قانون انتخابي ديموقراطي عادل… أما الخطوة الثالثة فهي تنظيم الحياة السياسية على أسس ديموقراطية مؤسسية عبر قانون لإشهار الأحزاب، بحيث يكون ذلك هو أساس الانطلاق نحو تشكيل إدارة سياسية كفؤة للدولة.
باختصار المطلوب البدء بإصلاح الحياة السياسية، فإصلاحها هو المدخل الجدي لإصلاح الاقتصاد والتعليم والتشريع والخدمات والإدارة الحكومية وانطلاق التنمية…
وإصلاح الحياة السياسية هو الطريق أيضاً نحو إعادة الاعتبار لمشروع الدولة الكويتية الحديثة، وهو الضمان للاستقرار والأساس في توحيد الجبهة الداخلية للنهوض بالكويت من كبوتها، وبناء كويت جديدة على أسس من الديموقراطية والمواطنة الدستورية المتساوية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وصولاً إلى تحقيق التنمية المعتمدة على الذات، التي يكون الإنسان محورها وهدفها، قبل أن يتم إغلاق النافذة التاريخية القصيرة التي يمكننا أن نستفيد خلالها من الموارد النفطية المتاحة لتحقيقها… وغير هذا سيكون مواصلة عبثية للدوران المرهق ضمن الحلقة المفرغة!
أضف تعليق