يُجمع الخبراء من توجهات شتى بأن حصيلة المئة يوم الأولى في تجربة الرئيس الأميركي الجديد متناقضة، فقد تكلم عن الكثير لكنه لم يفعل إلا اليسير، ضرب في سورية، لكن لم يقع شيء بعد ذلك. استقبل السيسي واستقبل قادة المملكة، لكنه يريد مزيداً من الدعم المالي من السعودية، كما طلب من دول أخرى في منطقة الخليج الدعم المالي. قرع طبول الحرب مع إيران، لكنه عاد وتعامل مع الاتفاق النووي بعد أن فهم بأن إنهاء الاتفاق سيؤدي إلى إيران نووية. قام بمنع مئتي مليون مسلم من دخول الولايات المتحدة ثم قامت المحاكم بتحدّيه وإيقاف إجرائه.
هذه الإدارة هي الأغرب في التاريخ الأميركي، فالرئيس لم يملأ المواقع المهمة للتعيينات التي يجب أن تصل لحوالى ٤٠٠ وظيفة، وترك وظائف أساسية شاغرة في الخارجية، بينما يترك العالم محتاراً حول سياساته، وفي معظم الأحيان يعبّر عن رأيه في أمر ثم يكتشف بأن ما قاله غير ممكن التحقُّق. فتارة يعلن أن الصين مشكلة، وتارة هي الحل، وتارة اقترب من روسيا وأخرى ابتعد، وفي فترة احتقر “الناتو” والآن يعود ليعظّم مكانته، وهو يريد بناء سور ضد المكسيك لكنه لا يعرف من أين يبدأ. كل هذه الإثارة وهو لا يكاد يملك المال لإدامة أعمال حكومته التي أقر الكونغرس موازنة تسمح لها بالعمل لغاية أيلول (سبتمبر) المقبل. الرئيس ترامب سلم زوج ابنته جاريد كوشنر ملفات كبيرة منها حل الصراع العربي- الإسرائيلي وإعادة ترتيب وتنظيم الحكومة الأميركية، وذلك من دون أن يعرف عن كوشنر أي خبرة أو تجربة أو تاريخ بأكثر من دعم اليمين في إسرائيل والعلاقة العائلية مع نتانياهو. (وهذا ينطبق على نسبة كبيرة من كبار الشخصيات التي تم تعيينها في البيت الأبيض في هذه المرحلة).
وفي زمن عدم المساواة في أميركا، حيث تسيطر أقلية صغيرة على الاقتصاد بطريقة لم تحدث في السابق، نجد أن ترامب سائر نحو تمكين من يشبهونه من حيث حيازة المال، فمستشار ترامب الاقتصادي الأساسي هو رئيس بنك غولدمان ساكس غاري كوهن (ترك منصبه مؤخراً لينضم لفريق ترامب). وكانت غولدمان ساكس غرمت خمسة بلايين دولار من الحكومة الأميركية (في عهد غاري كوهن) لعدم قانونية أعمال الشركة حول القروض قبل الأزمة الاقتصادية ٢٠٠٨.
وأقر البيت الأبيض منذ أيام قراراً من صفحة واحدة بتخفيض الضرائب، وهو قرار سيعفي مجموعة صغيرة من أغنياء الولايات المتحدة من تبعات ضريبية تصل إلى ٣٥٥ بليون دولار، فمالك وولمارت وحده سيكسب بحدود ٥٣ بليون من الإعفاءات بينما ترامب وعائلته سيكسبون بحدود أربعة بلايين دولار من الإعفاءات. وينوي ترامب تقديم المزيد من الإعفاءات للأغنياء ولشركات تخفي أموالها خارج الولايات المتحدة. وهذا يثير التساؤل الأكبر عن الطبقة العاملة البيضاء التي أعلن أنه ينوي تحسين ظروفها.
تناقضات السياسة الأميركية هي تناقضات دولة كبرى تحاول استعادة مكانتها، فتستعجل حرق المراحل التي لا يمكن حرقها. تريد استعادة الماضي البعيد، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها تواجه تحديات تجعل هذه الاستعادة مستحيلة. الرئيس الأميركي زاد من التسلح والنفقات العسكرية على أمل استخدام هذه الأسلحة، لكن ذلك لن يقدّم للأميركيين الوظائف التي وعدهم بها. لقد أنتجت الولايات المتحدة رئيساً شعبوياً، قلما يعرف كيف ينصت للحقيقة، فالدولة التي تريد بناء الجدران من حولها والتي يسعى رئيسها لمنع مسافرين يصل عددهم إلى مئتي مليون من المسلمين من دخول أراضيها هي دولة بدأت تفقد الثقة بقوتها الناعمة وقدرتها على الإقناع ومكانتها. هذه علامات تراجع وليست علامات قوة.
وعلى رغم تناقض السياسات الأميركية، فإن هذا الرئيس هو الأكثر قرباً، على الأقل في المجال الشكلي، للكثير من النخب العربية. هناك رهان عربي رسمي على ترامب لأنه شعبوي، ولا يتحدث عن حقوق الإنسان ولا يسأل عن انتهاكات، وأنه بالأساس يؤمن بالمال والقوة والولاء أكثر مما يؤمن بالخبرة والقدرة. نموذج ترامب جاذب للنُّخب العربية التي تعتقد أن السياسة ميكيافيلية والانتصار فيها يتطلّب القوة والمال والولاء على حساب الخبرة والمعرفة الموضوعية. لهذا تتوافق غالبية النخب العربية مع ترامب على روح العداء للإعلام الحر والكلمة النقدية، كما تتوافق معه على التفرقة بين فئات المجتمع. فالنخب هذه تعاني أيضاً من التغيُّرات الديموغرافية في بلادها، ولهذا فهي تتفهّم خوف ترامب من الأقليات المسلمة والتكاثر السكاني.
مع إدارة كهذه ستكون ظروف العالم العربي أصعب، كما أن الحرب على الإرهاب التي صار لها ستة عشر عاماً حرب طويلة ومستمرة، يضيف إليها الرئيس ترامب بعضاً من العنفوان، لكن، من دون تحقيق الأهداف التي يسعى إليها. فإن تورط الرئيس ترامب في سورية فستصبح المشكلة السورية مشكلته، وهذا مكلف لترامب بعد تجربة سلفه بوش في العراق، ولو تورط ترامب في اليمن سيملك مشكلات لا يعتبرها بالأساس مسؤوليته. لم يعد هناك حرب اليوم بلا تكلفة وبلا تحمُّل نتائج إنسانية. لهذا سيلوّح ترامب بصواريخ وضربات ليرسل إلى منطقتنا مزيداً من الفواتير السياسية والأمنية والعسكرية.
الواضح بعد مئة يوم في إدارة الرئيس ترامب إنه أجاد في تحويل الكثيرين من الأميركيين ضد سياساته وأطروحاته في الساحة الأميركية، فقد خسر الكثيرين ممن انتخبوه، وهو يساهم كل يوم بتسييس مزيد من الأميركيين وكل ساعة بنزول أعداد أكبر للمشاركة في التظاهرات والندوات والحشود الناقدة لسياساته، لكن هذا يجب أن لا يفقدنا موضوعية البحث في مصادر الشعبوية الأميركية بصفتها حركة تسعى الى العودة إلى الوراء نحو الحماية الاقتصادية ونحو منع الهجرة وتحدي قيم التنوع والكثير من القيم الحقوقية الديموقراطية التي أسست للحقوق والحركات السياسية المدنية في الغرب. رجعية حركة ترامب وآفاق فشلها لا تقلل من قوتها الراهنة. المئة يوم الأولى تؤكد أن ترامب والولايات المتحدة في مأزق، وأنه سيكون من الصعب الخروج من هذا المأزق في ظل سياسات تشبه ما رأينا في المئة يوم الأولى من حكم الرئيس ترامب.
أضف تعليق