إن تقليب صفحات التاريخ يمدنا بالكثير ومن العبر والأمثلة في شأن حياة الشعوب أو الأمم بل والدول، فالتاريخ والأحداث وسير الأمم تدل على أن الحياة هي اختبار للقوة والتحدي لإثبات الذات والبقاء بمراتب التطور والنجاح والتفوق والاستمرار، أو السير بدروب الوهن والتآكل والتراجع والضعف حتى تتلاشى.
تعالوا نتجول في حال دولة آمنة مستقرة يأتيها رزقها رغدا من كل صوب كيف كانت وكيف صارت وإلى أين تسير.
في أرض قاحلة طاردة شحيحة المصادر الطبيعية والمقومات لبناء الدولة، تلاقت عشائر وعوائل على هذه الأرض واتخذت منها موطنا وكانت هممهم عالية وجلدهم مميز وصبرهم وفطنتهم سببا لإحياء هذه الأرض وبث مقومات نشأة دولة تتغلب على تحديات إثبات الوجود وتحويل الترحال منها وإليها إلى استقرار واستمرار، فكانت تلك البداية.
وتلاحقت العقود بل والقرون وذلك التعمير والبناء مستمر حتى ذاع صيتها وعرف أهلها وصار لهم الكيان والوجود والاحترام، يجوبون البحار والصحارى ويصلون أصقاع العالم، يتنقلون يبحرون يتاجرون حتى استوت على عودتها وصارت مطمعا للقوى السائدة وقتذاك، ومع بداية القرن العشرين تكاملت أركان ومقومات الدولة التي بنيت في جوهرها من عمق الناس وبهم وبرضاء وقبول تولدت من خلاله السلطة بعقد اجتماعي فريد في عام ١٧٥٦، ثم تأطر ووثق في عام ١٩٢١، ثم تجسد ممارسة في الثلاثينات وتوج بعقد اجتماعي متطور في عام ١٩٣٨، وتلاحقت الأحداث ليتجلى مرة ثالثة بعقد اجتماعي متوازن في عام ١٩٦٢.
وسارت عجلة البناء الحديث بسلطات ومؤسسات وبنظم وتوافقات أحدثت نقلة مشهودة حتى أصبحت دولة دستورية لا ينتقص منها شيء، وأعطي كل حقه ونصيبه بتوازن فريد ومنضبط، فأسرة الحكم معرفة ومحددة وموقعها وسلطاتها مقننة وشعب يحكم وله سيادة مكرسة من خلال سلطات ثلاث مرسومة ومحسوبة، بتوازن محكم وأدوار محددة وصلاحيات موصوفة ورقابة متبادلة مثمرة لا تفريط فيها ولا إفراط، وهو سر سرعة تطورها وازدهارها وصيرورتها نموذجا للحرية والديموقراطية الحقة ومنبعا للتجارب المشهودة والبناء المنفتح والمتوازن للإنسان فيها بفكره المتنور ونفسه الحر وعطائه الإيجابي، فصارت دوحة وارفة الظلال.
لكن يبدو أن هناك من أصحاب النفوذ والتأثير من لم يعجبه الحال فأخذ يخرب ما بناه الآباء والأجداد فتلاعب بالمواطنة ليضيع الولاء والانتماء ليصير مرتبطا بالأشخاص بدل الدولة، وضعفت المؤسسات وتحول أغلبها إلى كيانات مريضة هزيلة تعيش على الفساد وتدور في فلكه وتحولت إلى هياكل بلا قيمة، بل تم التطاول على المؤسسات والنظام لتحل الفوضى والاختلال محلهما فصارت خاوية، وتم تلويث الذمم للتطاول على المال العام ليكون ذريعة لاقتياتهم ونهبهم للدولة وكل ثرواتها، فتداعوا عليها وتم التعامل مع الوطن على أنه مشروع مؤقت للإثراء السريع.
وهكذا آلت أوضاع معظم مؤسسات الدولة لتصير هياكل مثل الأطلال، بناؤها ربما شامخ خارجيا لكنه من الداخل خواء، بل لقد وصل الفساد والإفساد لمرحلة أن صار عظم العديد من مرافق الدولة منخورا وهشا وعلى شفا الانهيار، فالحكومة لا تملك مقومات الإدارة ومتطلباتها حتى ينتظر منها إحداث التغيير وإعادة الأمر إلى نصابه، ومجلس أمة مهترئ منذ بداية الثمانينات وبلغ أوجه في مجلس ٢٠١٣، والمجلس الحالي إذ صار تابعا وأداة للتمثيل على إرادة الناس بدل تمثيلها وسيكمل سنوات عجاف قد يهوي البلد بسببها إلى قاع لا يرجى من بعدها من قيام، وبالنسبة لي أرى الأمل باستعادة البلد لعافيته مفقودا ومبتورا، وهو حال ينشغل الناس عنه بأحوالهم الآنية متناسين أن العيش الرغيد الذي هم فيه مآله الزوال.. لذلك علينا كشعب أن ندرك هذه الحقيقة ونتحرك ونتداعى، فأغلب مؤسسات بلدنا صارت بضاعة للمتاجرة وقد تسقط أو تباع في أول مزاد.
أضف تعليق