أقلامهم

تحت شجرة الكرز!!

أتذكر شجرة الكرز يوم كنتم أطفالاً يتسلق إخوانك عليها ويقطفون لذيذ ثمارها بينما كان صاحبها وزوجته يبتسمان ويشجعان من يصل أسرع ويقطف أكثر.

تلك كلمات والدتي ووالدي التي تُعاد في الزيارة الأسبوعية العائلية التراحمية للوالدين إذا استذكرنا رحلتنا السياحية إلى لبنان في المرحلة المتوسطة في سبعينيات القرن الماضي.

كنا نسكن كما كل الكويتيين في الجبل بحمدون وحمانة وعالية وكان المكان منزلاً قسمه صاحبه إلى قسم لسكنه وآخر يؤجره إلى السياح.

كانت الأسرة اللبنانية التي استأجرنا عندها من طائفة الدروز، وكان صاحب المنزل ويدعى أبو سلام غاية في التواضع والهدوء والترحيب والتفهم وكانت شجرة الكرز الكبيرة في فناء المنزل الذي يطل على الوادي.

ربة البيت اللبنانية تذكر لوالدتي أنها طلبت من زوجها مرات عديدة أن يبيع ثمر الكرز من أشجار البيت، ولكنه كان يقول لنتركها على شجرتها لإكرام الضيوف، وإن منظر الأطفال وهم يتسلقون ويقطفون ويضحكون أسعد لقلبي من سعرها.

وتوطدت العلاقة الطيبة بين العائلتين ومضت الأيام الجميلة وظلت محفورة في الذاكرة لأن الوفاء والكرم وحسن العشرة هي الرصيد الذي لا يُنسى وسطور كتاب الذكريات التي لا تُمحى.

كانت معلوماتنا البسيطة عن لبنان أنه بلد متعدد الأديان والمذاهب والإثنيات الناس فيه متعايشون.

ولما استعرت الحرب اللبنانية الداخلية أدركنا مدى الدمار الذي لحق بالبلد والتمزق الذي يجتاح المجتمع إذا تم تثوير الانتماءات واستثمارها لأجندة خارجية بأدوات داخلية عندها يتحول مجتمع التعايش إلى بلد الكراهية والإقصاء ليصل في ذروته إلى القتل على الهُوية وهذا ما حصل حيث تحول ذلك البلد الآمن الوادع إلى ساحة حرب مفتوحة على مصراعيها يتقاتل فيها من كانوا يتسامرون بالأمس خضوعاً لأمراء الحرب الذين سخروا الدين والطائفة والمذهب والانتماء لتعزيز نفوذهم وتقوية مواقعهم على حساب المواطن البسيط والوطن الجريح.

واليوم في منطقتنا هناك مافيات تتقن اللعب على ورقة الطائفية لتستفيد على حساب كل المصالح المشتركة ليحقق المصلحة الخاصة والقريبة على حساب المصلحة العامة والانتماء.

كما أن وسائل إعلام وتواصل اجتماعي إلكتروني معلومة ومجهولة تصب الزيت على النار بكثافة لتعزز التمزق الذي بدأ يصل إلى عقول مستويات التعليم المبكر.

ماذا ننتظر من مقاطع فيديو طائفية ومذهبية يختلط فيها الدم بالشتم والوعيد يتلقاها الناس سوى الدمار وضياع مستقبل الأشخاص وإضعاف الأوطان؟!

أسوأ ما يَفُتُّ في لُحْمة المجتمع أن يخاف المواطن ممن يختلف معه في الانتماء ويسيء الظن به ويتوجس منه ريبة، وأسوأ من ذلك أن تخضع الأسرة لهذا الهاجس فتعززه في ذوات الأبناء بدلاً من أن تغرس في نفوسهم مبادئ وقواعد التعامل الإيجابي والنظر بالحسنى للآخرين.

اليوم نرى تصعيداً مذهبياً طائفياً فئوياً غير مسبوق في الخليج يذكرني بحبات شجرة الكرز اللبناني التي تحولت إلى قطرات دم باحتراب داخلي.

فأسأل الله أن يوفق المخلصين الذين ينشدون العدل وأصحاب البصيرة أن يقوموا بدورهم ويكثفوا جهودهم كي ينزعوا فتائل الفتن في منطقتنا حتى لا تتحول حبات البلح إلى رصاص يحصد الأبرياء ويبدد كل أمل في استمرار مجتمعاتنا آمنة مطمئنة.

الوسوم