محمد فاروق الامام
كتاب سبر

آذار وبحار الدم (17)
دستور حزب البعث والسيادة والشعب

جاءت هذه الفقرة صريحة واضحة وبصورة رسمية في مبادئ الحزب الأساسية التي يضمها (الدستور) حين يعلن أن (السيادة هي ملك الشعب وانه وحده مصدر كل سلطة وقيادة) وأن نظام الحكم (هو نظام نيابي دستوري.. والسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة).. (والسلطة القضائية مصونة ومستقلة عن أية سلطة أخرى وتتمتع بحصانة مطلقة). وهذا يعني أن فصل السلطات:
(السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.. مبدأ أساسي وقاعدة تبنى عليها ديمقراطية البعث. كما أن الحزب سيعمل على وضع دستور للدولة العربية يكفل.. للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً..).
وفي عام 1950م.. عندما كانت المعركة على أشدها في سورية حول قضية الديمقراطية البرلمانية والحكم الفردي.. اتخذ الحزب موقفاً صلباً وقوياً ضد أية فكرة تنسب مسؤولية التأخير وسوء الأوضاع السياسية في العالم العربي إلى النظام الديمقراطي البرلماني. وكان يرى البعثيون في ذلك الحين أن البلاد العربية.. بما في ذلك سورية.. لن تعرف في الواقع من الديمقراطية ومن النظام الدستوري سوى النواحي السيئة. لهذا فإن هذا (التشويه).. مع خطورته.. يجب أن لا يسيء إلى مبدأ الديمقراطية نفسها.
وكمثل على ذلك فإن البعثيين كانوا ينظرون إلى كيفية تطبيق النظام البرلماني في البلاد الغربية.. الذي هو نتيجة -برأيهم- للمشاركة الفعلية للشعب في الحياة السياسية.. في حين أن النظام النيابي الدستوري في سورية قد أفرغ من محتواه الديمقراطي الحقيقي. وهكذا.. فإن الحزب طوال تلك الفترة كان يقود الحركة التي تدافع عن الديمقراطية النيابية.. ويرفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال النظام الدكتاتوري والحكم الفردي.
في الحقيقة، هذا الاتجاه العام والرسمي لحركة البعث، فيما يتعلق بتبني مفهوم الديمقراطية البرلمانية، قد خضع لبعض التحولات إثر وصول بعض الأحزاب أو العسكريين إلى قمة السلطة في بعض البلدان العربية والنامية فقد ابتدأ الحزب في توجيه الانتقادات للنظام الديمقراطي البرلماني وأخذ يميل إلى تأييد ما كان يسمى بـ(الديمقراطية الموجهة).
غير أن هذا المفهوم الجديد، لم يوضح أبداً، ولم يضع البعثيون مفهوماً محدداً وملموساً للديمقراطية السياسية، كما أنهم لم يوضحوا المحتوى الاجتماعي لمسألة الحرية. لهذا فعندما قامت الوحدة في عام 1958م بين سورية ومصر، لم يكن لحزب البعث فكرة واضحة عن الأسس ولا الشكل السياسي للنظام الديمقراطي الذي يجب أن تبنى عليه هذه الوحدة.
وقد حاول (التقرير العقائدي) الذي أقر في المؤتمر القومي السادس، أن يضع الخطوط العامة العريضة لمفهوم الديمقراطية المسمى بالشعبية، إذ يرى أن الديمقراطية البرلمانية على النمط البرجوازي والتي نقلتها الدول العربية عن الدول الغربية، بقيت ديمقراطية شكلية مقطوعة من جذورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لهذا فإن البرلمانية في مظاهرها الأساسية كانت مرآة للواقع المتخلف، شبه (القبلي) وشبه (الإقطاعي). فإخفاق البرلمانية إذن لا يتأتى من تطبيقها السيئ، بقدر ما هو يعبر عن الحقيقة الموضوعية خاصة. وهكذا فإن ظاهرة الانقلابات العسكرية أصبحت الوجه الآخر للديمقراطية البرلمانية الغربية في كثير من البلاد العربية.
ولا يمكن لهذا المفهوم للديمقراطية، (برأي التقرير العقائدي)، من أن يأخذ أبعاده الواسعة وفعاليته في التطبيق، إلا إذا اعتمد على تنظيم جماهيري وهذا التنظيم السياسي الطليعي يجب أن يقوم على مبدأين رئيسيين: المركزية الديمقراطية والقيادة الجماعية. وحزب البعث هو المهيأ أن يلعب دور المحرك لهذه الجماهير الشعبية.
وإذا كانت القوى السياسية التقدمية يجب أن لا تزول من حيث المبدأ، إلا أنها ملزمة على أن تكون تحت قيادة حزب واحد، وهو (دون أن يسمي حزب البعث) ضمن جبهة عريضة من خلالها يمكنها أن تمارس نشاطاتها السياسية. من أجل ذلك فإن المؤتمر القومي السادس يعتمد لأول مرة مبدأ (الحزب القائد) الذي يملك السلطة المركزية الدائمة في حكم البعث.
منيف الرزاز عضو القيادة القومية المنتخبة في هذا المؤتمر والأمين العام الثاني للبعث بعد ميشيل عفلق يتخذ موقفاً متناقضاً كلياً لهذه الخطوة العامة التي أقرها المؤتمر القومي السادس، ويتوسع في توضيح المفهوم القديم للديمقراطية البرلمانية للبعث في كتابه (الحرية..) حيث يعتبر الصفة الأولى والأساسية للديمقراطية تكمن في حرية التعبير السياسية والتمثيل الانتخابي للشعب حسب الأعراف البرلمانية المعروفة. (فلا مجال لحرية تعبير في حكم غير ديمقراطي، كما أن لا مجال لحكم ديمقراطي مع فقدان حرية التعبير).. (بل لقد أصبح مقياس الحرية المادي إنما يعتمد على وجود النظام النيابي).. (وأن بلداً محروماً من التمثيل النيابي بلد لا يمكن أن يقال إنه يتمتع بالحرية). والرزاز في سياق دفاعه عن حرية تأليف الأحزاب السياسية، يؤكد أن تعدد الأحزاب، إذا كان يعكس تناقضات موجودة في المجتمع، فهو يعبر أيضاً عن (حيوية الأمة). وهو يضيف: (أن حرية التكتل في أحزاب سياسية أساس من أسس الحرية السياسية الحديثة، لا وجود لها من دونها. وكبت هذه الحرية بإلغاء الأحزاب أو إلغاء تعدد الأحزاب لا يمكن أن يعني إلا وقف الحريات السياسية للشعب وللمواطنين وحصر الحياة السياسية في الحكم أو مجموعة الحكام).. (ولا يمكن لحياة سياسية أن تقوم في أي قطر من غير أن تتمثل هذه الحياة السياسية في أحزاب قائمة. وإذا انعدمت الحياة الحزبية فقد انعدمت مشاركة الشعب في رسم مصيره السياسي). من أجل ذلك يقف موقفاً عنيفاً ضد مبدأ (الحزب الواحد)، لأن (حكم الحزب الواحد لا يمكن أن يكون حكماً ديمقراطياً بطبيعته.. إنه تعبير عن حكم كتسلط بجهاز شعبي). وبكلمة واحدة، إن عدم وجود أحزاب سياسية متعددة في حكم ما، إنما (هو إلغاء تام للحياة السياسية للمواطنين وإحلال الدولة محل الشعب).
يتبع

الوسوم

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.