كان قادة الفرق والتشكيلات يتكلمون مع العميد رفعت الأسد بقصد إخافته وإرهابه بأن أي تحرّك معادي ضد الرئيس الأسد سوف يجابه بالقوة.. وكانوا ينقلون ردود فعله إلى سيادة الرئيس أولاً ثم إلى القيادة العامة ثانياً، وفي إحدى المرات.. قال له اللواء إبراهيم صافي قائد الفرقة المدرعة الأولى: أخي أبو دريد شو رأيك بأن أدعوك إلى الغداء في مطعم العندليب وهناك تلتقي مع قادة الفرق وتحدثهم بنفسك عن أسباب الأزمة الناشبة بينك وبين سيادة الرئيس بدون مراسلين؟.. وكان جواب العميد رفعت بالموافقة وتم تحديد التوقيت الساعة الثانية بعد الظهر.
أعلمني اللواء إبراهيم صافي بذلك وقال لي: لقد وضعت الرئيس الأسد بالصورة وكذلك العماد حكمت واللواء علي دوبا والشباب محضرون وجاهزون لاعتقاله مع مرافقته.
اتصلت بالرئيس الأسد وقلت له: إذا رفض العميد رفعت الاستسلام وأصر على المقاومة.. ماذا نفعل؟.. فأجاب: إنها شريعة الحرب إما غالباً وإما مغلوباً وأنا لا أريدك إلا غالباً.
جاء نهار الغد ونحن ننتظر ساعة الصفر.. ولكن العميد رفعت كان حذراً مثل القاق الأسود فلم يحضر إلى المكان المذكور وأرسل بدلاً منه ست عربات (C.M.C) بيك آب مزودة بزجاج دخاني تسمح لمن بداخلها فقط أن يرى ولا يُرى.. وهي مملوءة بالعناصر المرقّطة والمبرقعة.
وبدلاً من أن تتوقف أخذت تمر من أمام المطعم لتقول نحن جئنا حسب الموعد.. فماذا تنتظرون؟.. وسألني اللواء صافي: ماذا نفعل؟.. فأجبته: اتركهم وشأنهم وسيعودون إلى وكرهم إذا أبديتم عدم اهتمامكم، وأعلمت الرئيس الأسد بالأمر.. فقال: حسناً تصرفت..
بداية المقاومة
في أواخر نيسان من العام 1984م بدأ العميد رفعت يشعر بأن ميزان القوى قد مال لصالح شقيقه الرئيس الأسد لدرجة لم تعد تسمح له بالحركة إطلاقاً فاتصل بشقيقه جميل الأسد ليمهّد له المصالحة مع أخيه وأنه جاهز لأي عمل يرتئيه.. وكان الرئيس الأسد ينتظر بفارغ الصبر انهيار رفعت ورضوخه إلى السلطة، ونجح الرئيس في لعبة عض الأصابع، ومن هذا المنطلق أعلم شقيقه جميل بالموافقة على طلب قائد سرايا الدفاع.. وبدأت المفاوضات الصعبة، ومع أن الرئيس الأسد مقيّم دولياً وعربياً أنه سيد من أتقن فن هذه اللعبة، ولكن في الطرف الآخر هناك أيضاً سيد من ابتزّ أخيه وغير أخيه وبعد أن وافق على الخروج من سورية ثم العودة عندما تهدأ الأمور بدأ يساوم على المبلغ الذي يحتاج إليه للإقامة عدة شهور خارج البلاد حتى تهدأ العاصفة، ومع أن الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي وقائد الحرس الوطني كان يدفع له شهرياً خمسة ملايين دولار كما أن الشيخ خليفة آل ثاني لم يقصّر ومثله ياسر عرفات والشيخ سحيم آل ثاني.. إلخ، فقد طلب مبلغاً من المال بالقطع النادر لم يكن متوافراً في المصرف المركزي لأن الدنيا كما يقول المثل السائد وجوه وأعتاب ونواصي، فمنذ أن تسلّم الدكتور عبد الرؤوف الكسم رئاسة الوزارة فقد خيّمت غمامة من الشؤم على سورية لا مثيل لها.. فمرض الرئيس حافظ الأسد مع أن بنيانه الجسمي متماسك لدرجة تقترب من حدّ الأسطورة، ومات خمسة وزراء في عهده، وأصبح المصرف المركزي خاوياً حتى من الفئران كي لا أقول من الدولارات.. وسُدت منافذ الرزق في وجوه المؤسسات والأفراد وسائر العباد وبدأ الناس في سورية يتساءلون متى ينزاح ظل هذا الغراب عن الرقاب.. المهم فكّر الرئيس الأسد من أين يأتي بالمال اللازم لإشباع فم أخيه رفعت.. وارتأى أن الرئيس معمّر القذافي يمكن أن يكون الشخص الذي يحل هذه المشكلة فأرسل كتاباً خاصاً إلى قائد ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر) مع اللواء محمد الخولي رئيس إدارة المخابرات الجوية، وعندما وصل إلى طرابلس الغرب كان القذافي والحمد لله بمزاج حسن وتذكّر مواقف الأسد القومية في دعم ومؤازرة الثورة الليبية ورد على رسالة الأسد رداً جميلاً وتم تحويل المبلغ بكامله إلى المصرف المركزي وأعطى الرئيس الأسد شقيقه جزءاً منه وبقي الجزء الأكبر احتياطاً للطوارئ الاقتصادية التي كانت تعصف بنا وما كان أكثرها.
وتم الاتفاق على أن تعود سرايا الدفاع لتوضع بتصرف هيئة العمليات في القوات المسلحة، وتم تشذيبها بحيث بقيت في حدود ملاك الفرقة المدرعة زائد كتيبة دبابات مستقلة، كما تم الاتفاق على أن يبقى الفوج (555) بتصرف العميد رفعت كنائب لرئيس الجمهورية مسؤولاً (نظرياً) عن شؤون الأمن لأن الرئيس الأسد أحرص من أن يسلّم أمنه الشخصي وأمن البلاد لرجل لا يتقي الله لا بوطنه ولا بأهله.
كما تم الاتفاق أن يسافر معه إلى موسكو اثنان من الضباط الأمراء طلبهما العميد رفعت شخصياً وهما اللواء شفيق فياض واللواء علي حيدر كما سافر معهم اللواء الخولي وكان ذلك بطلب خاص من العميد رفعت حتى يطمئن أن الطائرة لن تنفجر بعد إقلاعها بالجو، وصدر أمر الإيفاد بتاريخ 28/5/1984م وسافر العماد ناجي جميل مع حاشية العميد رفعت، وما حزّ في نفسي كثيراً أن العماد ناجي هو الذي طلب أن يسافر العميد رفعت، ومع أن الفارق كبير بين رتبة العماد ورتبة العميد، فإن العماد ناجي كان يخاطب العميد رفعت دائماً بكلمة (سيدي) أقول هذا الكلام والغصّة في حلقي لأن للعسكرية هيبة لا يجوز خدشها ولا يجوز مسّها وإلا تصبح العسكرية ضرباً من الانكشارية.
وظل الرفاق قرابة شهر في موسكو، وكان العميد رفعت ومجموعته قد ودّعوا موسكو بعد سلسلة من المقابلات البروتوكولية الشكلية مع المسؤولين السوفييت، وبهذه المناسبة لابد من شهادة حق للتاريخ فقد كان موقف أصدقائنا في موسكو مع الرئيس الأسد قولاً واحداً وكلّفوا رسمياً مستشار قائد الوحدة (569) (سرايا الدفاع) بأن ينقل إليّ عن طريق كبير المستشارين الجنرال “غوردينكو” الحالة النفسية للعميد رفعت وضباطه، وكنت أنقل هذه المعلومات لسيادة الرئيس كما كنت أضع الرفاق في القيادة العامة بالصورة وكانت هذه المعلومات مفيدة للغاية بالنسبة لنا لأنه أمر أساسي لتقدير الموقف أن تعرف حالة الخصم النفسية..
وضاق اللواء شفيق واللواء علي حيدر ذرعاً بالإقامة في موسكو وخشيا أن زحمة أعمال الرئيس الأسد قد تؤخّر صدور الأمر الخاص بعودتهم إلى أرض الوطن، وأرسل إليّ اللواء شفيق رسالة مؤثّرة واتصلت هاتفياً بهم إلى موسكو وطمأنتهم بأن الرئيس لن ينسى أبداً أبناءه، وعندما أعلمت الرئيس بالموضوع استغرب وقال لي: هل أمضيا شهراً في موسكو؟.. وعندما أجبته: نعم.. قال: أصدر نيابة عني الأوامر بعودتهم إلى أرض الوطن.
وهكذا عاد أبو علاء وأبو ياسر من بلاد الغربة، مع أن الإقامة في موسكو ذلك الحين كانت تعتبر مثل الإقامة في باريس باستثناء أن الإقامة في موسكو كانت تكلف أقل بخمس مرات، ولكن شعور المرء أنه يعيش الغربة وأنه ليس ذاهباً بإجازة أو نزهة تجعل الحياة صعبة لا تطاق.
وهكذا أسقط الأسد جميع الرهانات المعادية المحلية والعربية والأجنبية التي كانت ترى بوصول العميد رفعت الأسد إلى السلطة هو انضواء سورية تحت المظلة الأمريكية ونهاية لوقفة العز والشموخ التي اتّسمت بها المسيرة التي قادها أمين هذه الأمة.
(انتهى)
أضف تعليق