مع الاحتفالات المتواصلة على مدار هذا العام بالذكرى ال300 لتأسيس إمارة ليختنشتاين الاوروبية يتبادر إلى الاذهان النمو الاقتصادي المستقر الذي تشهده الامارة بتطور لافت خلال النصف الثاني من القرن الماضي على وجه الخصوص.

وبقي تاريخ الامارة الاقتصادي لعقود طويلة مرهونا بالزراعة ورعي الماشية والاستفادة من منتجاتها الحليبية ولحومها وجلودها فكان الكثير من أبنائها الذين لا يحبون العمل في الزراعة او الرعي ارتأوا الرحيل لفترات مؤقتة الى النمسا او سويسرا بحثا عن عمل.

واهتمت الامارة في الوقت ذاته بالتعليم كدعامة اقتصادية هامة فكانت اول بلد في العالم يعتمد نظام التعليم الالزامي في عام 1805 وهو ما ساهم في ظهور طبقة مثقفة بدأت في التفكير في الدخول الى المضمار الصناعي فوقعت مع النمسا في عام 1852 اتفاقية للتبادل الجمركي لتشجيع الحركة الاقتصادية بين البلدين.

وكان لتلك الاتفاقية اثر إيجابي في تنشيط الحركة التجارية بين البلدين مما شجع على انشاء اول شبكة مواصلات من وإلى الامارة تربطها مع كبريات مدن شرق سويسرا وغرب النمسا ما زاد من الحركة الاقتصادية.

ومع تزايد الحركة الاقتصادية قررت الامارة الدخول الى عالم المال بتأسيس اول بنوكها عام 1861 بقرار من الامير يوهان الثاني الذي حكم الامارة لمدة 71 عاما حتى عام 1929 ويصفه المؤرخون بانه مؤسس الامارة الحديثة.

ثم ظهر في الامارة اهتمام واضح بصناعة النسيج التي كانت مزدهرة بقوة في سويسرا آنذاك فكانت تلك الصناعة مجالا هاما لتشغيل الايادي العاملة النسائية وانعشت الانشطة الاقتصادية ذات الصلة.

وتعرض هذا النشاط الصناعي في مجال النسيج لضغوط من دول الحلفاء اثناء الحرب العالمية الاولى لوقف جميع الانشطة التجارية من وإلى امارة ليختنشتاين رغم حيادها مع جميع الاطراف المتحاربة وذلك بسبب علاقات الصداقة المتميزة التي كانت تربطها مع الامبراطورية النمساوية.

وما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها حتى بدأ الامير يوهان الثاني يدرك ان موازين القوى في القارة قد تبدلت فأملت عليه المصالح الاقتصادية توقيع اتفاقية تبادل جمركي مع سويسرا في عام 1928 تمثل الى اليوم حجر الزاوية في العلاقة بين الجانبين لاسيما مع اعتماد الفرنك السويسري كعملة أساسية لها.

وتوصف تلك الحقبة بأنها نقطة تحول في مسار الامارة الاقتصادي اذ بدأت في الاستفادة من خبرات الاقتصاد السويسري ودخلت قطاعات صناعية مختلفة ثم شهد اقتصاد الامارة طفرة ثانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مستفيدة من خضم النهضة الاقتصادية في أوروبا كما لعب مكانها الجغرافي دورا في تنشيط الحياة الاقتصادية.

وقد ساهمت سياسات الشراكة تلك مع دول الجوار والمدعومة بامتيازات ضرائبية للشركات الأجنبية في استقطاب الاستثمارات الخارجية الى البلاد فتحولت اليها مؤسسات عملاقة كبرى مثل (هيلتي) المتخصصة في معدات البناء والانشاءات و(اورليكون) السويسرية المتخصصة في الصناعات الثقيلة و(تيسين كروببريستا) الالمانية لصناعات السيارات و(ايفوكلار فيفادنت) السويسرية المتخصصة في تقنيات طب الاسنان.

كما تمكنت الامارة بفضل حيادها السياسي من الدخول في مجال إدارة الثروات الخاصة والخدمات المالية والاستثمارات فضلا عن تعزيزها لاقتصاد المتاحف بما يتضمنه من تجارة اللوحات الثمينة وإصدار العملات النادرة من الذهب والفضة وطوابع البريد المتميزة والسياحة الجبلية صيفا وشتاء.

وقد ساهم هذا النمو الاقتصادي الكبير في استحداث فرص عمل قفزت بمعدل الوظائف في البلاد من أربعة آلاف عام 1930 الى اكثر من 38 الف وظيفة متاحة في عام 2018 وفق المكتب الوطني للاحصاء التابع للامارة.

وبموجب تلك الاحصائيات تحتل امارة ليختنشتاين المرتبة الأولى أوروبيا في نسبة الوظائف المتاحة مقارنة بعدد السكان البالغ عددهم حوالي 38 الف نسمة تليها امارة لوكسمبورغ بنسبة 70 بالمئة ثم المانيا بنسبة 53 بالمئة في مجال الوظائف المتاحة مقارنة بعدد السكان.

وبعدما كان اكثر من نصف القوى العاملة للامارة تغادر الى دول الجوار لكسب العيش في فترات ما قبل هذا الانتعاش الاقتصادي أصبحت الامارة الآن تستقطب سنويا اكثر من 21 الف موظف وعامل من النمسا وسويسرا ضمن ال38 الف وظيفة المتاحة حاليا.

وعلى الرغم من هذا التطور الاقتصادي الهائل والنمو الاقتصادي المستقر في حدود 5ر1 بالمئة سنويا الا ان هناك قلة من سكان الامارة لا يزالون يفضلون الحفاظ على تراثها من العمل الزراعي فيحرصون على إدارة المزارع والمراعي تارة بالتقاليد القديمة وأخرى باستخدام تقنيات الزراعة والمراعي الحديثة ليبقى هذا التراث شاهدا على ما كان عليه اقتصاد الامارة قبل تطوره الهائل.