كتاب سبر

بين معيارين

ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻓﺮﺯﻫﺎ ﺑﺮﻭﺯ ﻣﻌﻴﺎﺭ “ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ” ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺮﺍﻫﻨﺔ، ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ هو ﻣﺤﻮﺭ ﺭئيسي ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ، ﻭﺃﻥ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﺣﻘﻮقه ﻣﻴﺰﺍن ﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻘﻴﺎﺱ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷمور، ﻣﻦ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺃﺧﻼﻗﻴﺔ ﻭﺩﻳﻨﻴﺔ. أما المعيار القديم المتمثل في “الحقيقة الدينية” فلم يعد يلعب الدور القديم الذي كان يلعبه حينما كان يمثّل المعيار الوحيد.

فاﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ كان ﻳﺴﺘﺴﻠﻢ ﻟـ”ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ”، بينما هذه الحقيقة باتت اليوم ﻣﺴﺘﺴﻠﻤﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺑﺸﻜﻞ ﻭﺍﺿﺢ ﻭﺻﺮﻳﺢ. لقد تم تغيير المعايير إثر قيام “الحرية” بفتح الأبواب لهضم مختلف ﺃﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﺳﺘﻔﺴﺎﺭﺍﺗﻬﺎ، وهو ما ﻋﺠﺰت عنه “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ” وأدى إلى فقدانها لدﻭﺭها ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭﻱ.

تسير اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﺴﻼﺳﺔ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎق الإنسان “الحر”، ﻟﺘﺆﺛﺮ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺗﺼﺮﻓﺎﺗﻪ واختياراته. فهي ﺗﺴﺎﻫﻢ اليوم ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ أو يرفض الإنسان “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ”، بينما كانت “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ الدينية” ﺗُﻔﺮﺽ ﻓﺮﺿﺎ عليه ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻣﻦ ﺳﺒﻴﻞ ﺳﻮﻯ ﺃﻥ ﻳﺨﻀﻊ ويستسلم ﻟﻬﺎ.

اختلف مفهوم “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ” ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ، بعدما تحرر ﻣﻦ ﺃﺳﺮ ﺍﻷﺩﻳﺎﻥ، فلم ﻳﻌﺪ ﻳﻨﻄﻠﻖ ﻣﻨﻬﺎ، فأﺻﺒﺢ ﻟﻠﻌﻠﻢ حقائق، ﻭﻟﻸﺧﻼﻕ حقائق، ﻭﻷﺷﻴﺎﺀ ﺃﺧﺮﻯ ﺣﻘﺎﺋﻖ، وﺑﺎﺕ ﻏﻴﺮ ﻭﺍﺭﺩ ﺍﻻﺳﺘﺴﻼﻡ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ إلا في حدود الإثباتات التجريبية. فبرزت ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﻛﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﻌﻴﺎﺭ “ﺍﻟﺤﺮية”. وأصبح الإنسان يختار “الحقائق” دون خوف من أي سلطة، دينية كانت أو غير دينية. ﻭﻛﺎﻥ ﻻﺑﺪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺃﻥ ﻳﺘﻢ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ، لأنه ﻳﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ الحديث.

ﺍﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺍﻟﻤﺒﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻴﺎﺭ احتكار وامتلاك “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ” (وغير الدينية)، ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺍﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﻠﻴﺎ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﺍلمبني ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻴﺎﺭ “اﻟﺤﺮﻳﺔ”. ﻓﺎﻟﻤﺘﺪﻳّﻦ ﺍﻟﺬﻱ يستند إلى نهج الإﺣﺘﻜﺎﺭ ويربط ممارسته للسياسة بذلك، يخنق ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺿﺔ ﻭيعرقل ﺣﺮﻳﺘﻬﺎ، خاصة حينما يتهمها بمعاداة الحقيقة الدينية، ولا يستطيع ﺃﻥ ﻳﺘﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ الإنسان ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ الذي ينطلق في نشاطه ﻣﻦ ﻣﻌﻴﺎﺭ “الحرﻳﺔ”. لذلك، نشاهد وببساطة كيف يقصي المتديّن المسيّس، المواطن غير المتديّن، ويطالبه بالبحث عن وطن آخر ليستقر فيه بديلا عن وطنه لمجرد أنه لم يتقبل خلافه الفكري معه أو مع “حقيقته”. ومؤخرا ظهرت إحدى المدافعات عن نظام ولاية الفقيه في التلفزيون الإيراني لتطالب كل من يرفض قواعد الحياة الدينية وقوانين النظام الإسلامي بمغادرة البلاد ليستقروا في وطن بديل.

لا يمكن للحرية ﺃﻥ ﺗﺘﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ ثقافة “ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ المطلقة” ومزاعم امتلاكها، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ الهيمنة وﺍﻻﺣﺘﻜﺎﺭ ﻭﺍﻟﺘﻀﻴﻴﻖ ﻋﻠﻰ ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭعلى ﺇﺭﺍﺩﺗﻪ بل وعلى وجوده. فهذا المعيار ﺗﻼﺷﻰ دوره ﻭﺣﻞ ﻣﺤﻠﻪ ﻣﻌﻴﺎﺭ “ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ”، فأصبح ﺍﻟﻤﺰﺝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﺍﻟﺪﻳﻦ بوصفه حقيقة مطلقة ﺃﻣﺮﺍ ﻏﻴﺮ ﻭﺍﻗﻌﻲ ﻭﻣﻨﺎﻫﻀﺎ ﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ.

فاخر السلطان

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.