قال تقرير في صحيفة “القبس” إن الكويت “تحررت من قيود الإسلاميين التي طالما حجمت العديد من الأنشطة الفنية، حيث تشهد البلاد خلال الفترة الحالية حالة من الرواج الفني، لاسيما على مستوى الحفلات الغنائية”. وأضاف التقرير أن “سلسلة الاحتفالات الوطنية التي أقامتها العديد من المحافظات في الفترة الماضية ساهمت في التأكيد على عودة الكويت لسابق عهدها كمنارة للثقافة والفنون”.
فهل يريد تقرير “القبس” أن يوحي للقارئ بأن الكويت قد تحررت فنيا وثقافيا لمجرد تراجع دور التيار الديني عن وضع القيود أمام تنظيم الحفلات الغنائية؟ وهل تحرُّر الثقافة والفن مرتبط برواج هذه الحفلات، وبالقدرة الكميّة على إقامتها؟
يعبّر التقرير عن مغالطة واضحة. فمفردة التحرر، الثقافي والفني، لا يمكن أن تتعلق بالحفلات الغنائية فحسب، بل لابد أن تشمل كل النشاط المرتبط “بالفن” بجميع قطاعاته، كالمسرح والسينما، و”بالثقافة”، كمعارض الرسم والكتب، و”بالفكر”، كتنظيم المحاضرات واستضافة المفكرين وحرية الحديث في المواضيع الفكرية الشائكة.
كما لا ترتبط مفردة التحرر بكيفية الانفكاك من الموانع التي يفرضها التيار الديني على المجال الثقافي والفني، بل ترتبط بصورة أكثر وأكبر بالموانع التي تضعها الحكومة في طريق الأنشطة الثقافية والفنية، والتي هي أقوى وأهم بكثير من موانع التيار الديني. ونظرة سريعة على الأنشطة الممنوعة من قبل وزارة الإعلام أو من خلال تدخلات الحكومة، سواء تعلق ذلك بمعارض الكتب أو بالمسرح أو بالمحاضرات الفكرية أو بالمعارض الفنية أو بغيرها، كفيلة بتوضيح ذلك.
وإذا كان “مركز جابر الأحمد الثقافي” قد كثف الحفلات الغنائية في الآونة الأخيرة وفي خطته للفترة القادمة، فهو منع إقامة لقاء ومحاضرة للأديبة الإيرانية آذر نفيسي مؤخرا، وبالتأكيد سوف يمنع العديد من المحاضرات والفعاليات لشخصيات ثقافية وفكرية غير مرغوب حضورها إلى الكويت سواء كان هذا المنع بضغط من الإسلاميين أو من طرف الحكومة.
وملف حضور المفكرين والمثقفين إلى الكويت ملئ بأسماء ساهمت في رفع هامة الثقافة والفكر في العالم العربي بل وفي العالم. ومن المستغرب أن تكون مسألة زيادة الحفلات الغنائية مدعاة للقول بأن الكويت أصبحت منارة للثقافة والفنون، بل هي لا تزال مركزا للإنغلاق ولمنع وطرد وسوء معاملة المثقفين والمفكرين وعرقلة أنشطتهم.
إن أحد اهداف الثقافة هو “الإبداع”، أي تجاوز الأمر التقليدي والساكن، والسعي لمواكبة الجديد الذي يؤدي إلى التغيير الثقافي والاجتماعي. غير أن هناك من لا يهمه أن تكون الثقافة ﺃﺩﺍﺓ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺍﻹﺑﺪﺍﻉ، ويكتفي بأن تكون الأنشطة الثقافية والفنية تكرار للمشهد القديم الذي كان يرضي الذوق الحكومي. ورغم أن بعض هذه الأنشطة، كالحفلات الغنائية، مزعجة للتيار الديني، لكن من المهم لدى البعض ألّا تكون مزعجة للحكومة، على الرغم من أن منع العديد من الأنشطة بات أمرا متفقا عليه بين الإسلاميين والحكومة إنطلاقا من توافق مصالحهما.
فالرسالة ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ ولكثير من ﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ، ﻣﻦ ﻣﻔﻜﺮﻳﻦ وكتّاب ﻭﺃﺩﺑﺎﺀ ﻭﺷﻌﺮﺍﺀ ومغنيين وممثلين ومخرجين ﻭﻧﻘﺎﺩ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ الكثير، هي تحريك ﻣﻴﺎﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﺍﻟﺮﺍﻛﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺇﺣﺪﺍﺙ ﺣﺮﺍﻙ ﺇﺑﺪﺍﻋﻲ ﺗﺸﺘﺮﻃﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ.
ﺇﻻ ﺃن البعض لا يهمه ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ، ويشدّد على ﺇﺑﻘﺎﺀ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ عليه وتجنب ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺃﻱ حجر ﻹﻟﻘﺎﺋﻪ ﻓﻲ ﻣﻴﺎﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﺍﻟﺮﺍﻛﺪﺓ ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺩﻳﻤﻮﻣﺔ ﻣﺼﺎلح أفرادها ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ أﻭ مصالحها مع الحكومة. لذا تأتي الحرية على رأس ﺷﺮﻭﻁ ﺗﺤﻘﻴﻖ الإبداع الفني والثقافي والفكري، ﺇﺫ ﻟﻮﻻﻫﺎ ﻟﻤﺎ ﺍﺳﺘﻄﺎﻉ ﺍﻟﻤﺜﻘﻒ ﺃﻥ ﻳﺨﺮِﺝ ﻣﺎ ﻓﻲ داخله ﻣﻦ ﺇﺑﺪﺍع.
فاخر السلطان
أضف تعليق