المقدمة
دائما ما تأخذنا حركة التاريخ في خطين متوازين، المسار الموضوعي والآخر الذاتي. فالكويت التي نشأت في منتصف القرن ١٦ ليست كما هي التي أسسها مبارك الصباح وكويت مبارك ليست كما هي كويت عبدالله السالم وكويت عبدالله السالم لم يتبقى من ملامحها الا القليل جدا ولن يكون هناك جديد الا بنفي القديم.
فالظروف الموضوعية في كل حقبة زمنية تختلف عن ما سبقها ويتبارى معها الظرف الذاتي ، ففي كل منعطف تاريخي نجد مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة والموجة “الظرف الموضوعي” يتفاعل معها رجال إما أن يكونوا مستنيرين أو مستبدين يصاحبهم طليعة إما أن تكون واعية أو واهمة “الظرف الذاتي” فيحدث تغيير في المسار العام لحركة التاريخ لمجتمع ما، ينفي القديم بدعائم الجديد فتاريخ العالم والمجتمعات مليء بالنماذج والأمثلة على ذلك.
الصفقة التاريخية
تضخم الدولة الحديثة، القديمة التي أسسها عبدالله السالم وترهل أجهزتها وتراكم فسادها منذ حكومات ١٩٦٢ جعلها تسير بخطى ثقيلة للأمام وجعل مهمة أي شخص يأتي الى رئاسة الحكومة هي مهمة مستحيلة وعاجزة مهما كانت نواياه صادقة وجادة للإصلاح والتغيير.
فكويت ٢٠٣٥ بحسب التقديرات الإحصائية الرسمية والطبيعية يتجاوز عدد سكانها ١٠ مليون نسمة وتتجاوز ميزانيتها ٤٠ مليار دينار كويتي ويتضخم الباب الاول المخصص للأجور والرواتب وترتفع معه معدلات البطالة والتضخم ويستمر اعتمادنا على مورد واحد ناضب ومتذبذب الأسعار، الأمر الذي يجعل من الأسرة الحاكمة عاجزة عن إدارة الدولة ، بالوقت نفسه نجد الأسرة التجارية تتنمر بحكم تطلعاتها وطموحاتها ونفوذها المتزايد ومصالحها التوسعية ، حيث لم يعد حيز رئاسة البرلمان موقعاً مريحاً لعضلاتها.
فهذا السياق والتطور التاريخي الطبيعي ، الاجتماعي والسياسي تمر عليه منعطفات تاريخية فبعد التقاء الظرفين الموضوعي والذاتي ، قد ينتج عنه تبلور صفقة تاريخية بين الأسرة الحاكمة والأسرة التجارية
القائد الملهم
في الظرف الذاتي لا يتم التركيز دائما على الكم وإنما على النوع وقدراته ومهاراته التي يمتلكها، فتجاربنا وتاريخنا يخبرنا دائما بأن أعداد قليلة منظمة استطاعت إحداث أعمال كبيرة غيّرت وجهة التاريخ إما الى الأفضل أو الأسوء.
لذلك العائق أو الدافع هو وجود قيادة تملك المهارة والقدرة وهذا ما يعاني منه البرلمان الكويتي منذ قرار المقاطعة الانتخابية الى اليوم فالقيادة ليست رقم في العملية البرلمانية وإنما هي مسألة إلهام للجماهير تمنحها القدرة والثقة بالنفس وتخلق لها الجو النسبي للحركة والمبادرة والنشاط.
السبب
فتجربة النائب السابق مسلم البراك بعد دخوله مجلس الامة في سنة ١٩٩٦ نموذج مهم للدراسة والتفكير والإمعان به طويلا ، فلقد استطاع البراك أن يخلق حالة من الوعي في المناطق الخارجية وأن يلهمهم ويحفزهم بقدرتهم على التغيير وأن يستنهض همهم على مدار سنوات من الممارسة والعمل والتحرك الجاد الى أن أثمر عن حراك ٢٠٠٩ والذي أسفر عنه أول أغلبية برلمانية في تاريخ الحياة السياسية الكويتية.
فالتراكم الكمي على مدار سنوات أدى الى تغير نوعي في الخطاب والممارسة والتشخيص ، فالدور القيادي والملهم والجماهيري الذي ناضل البراك من أجله على مدار ١٦ سنة برلمانية لا يمكن لأي قوة مهما بلغت من الاستبداد أو النفوذ أن تزيله من وجدان وعقول الأجيال القادمة والحاضرة.
النتيجة
أحدث وجود أغلبية برلمانية معارضة في مجلس ٢٠١٢ انفجاراً كبيراً لتناقض رئيسي في المنظومة الدستورية التي أسست ١٩٦٢ وصممت بطريقة تضمن عدم وجود أغلبية برلمانية معارضة، فوجود أغلبية معارضة يتعارض بالمنطق والواقع الطبيعي مع فكرة وجود ديمقراطية وبرلمان، فالديمقراطية والبرلمان الطبيعي تنص على أن لا يمكن لأغلبية أن تسمي نفسها معارضة فالأغلبية في الديمقراطيات الطبيعية هي التي تشكل الحكومات والأقلية هي من تكون معارضة، إلا أن نتائج حراك ٢٠٠٩ في الكويت كشفت عن عورة المنظومة الدستورية وعن عدم صلاحياتها للاستخدام ، لذلك نجد أي ممارسة برلمانية بعد مجلس ٢٠١٢ “المبطل الاول” هي ممارسة مشوّه وغير منتجة.
العفو الشامل
إن أخطر ما تواجهه الكويت اليوم هو أن تنجز هذه الصفقة بين طرفين (الأسرة الحاكمة والأسرة التجارية) لا ثالث لهما، ففي حال إتمامها دون الطرف الثالث وهو الشعب الكويت فإننا أمام إعادة لإنتاج التجربة البنغلاديشية والمصرية بكل تجلياتها وآلامها ومآسيها، ولن يكون هناك أجمل من رمزية ممن دفعوا الثمن وبذلوا التضحيات من أجل الكويت وشعبها ودستورها وثرواتها ألا وهم المهجرون قسرا عن وطنهم ، المحكومين في قضية دخول المجلس بأن يكونوا ممثلين عنّا في هذه المعادلة التاريخية حينها سنكون قد غيرنا من وجهة تاريخ الكويت الحديث بالاتجاه الى التجربة البريطانية.
أنور الفكر
رائع
من اجمل ما قرأت عن ربط التاريخ والواقع