آراؤهم

الابتداء بالساكن بين الفصحى والعاميّات

من القواعد المستقرّة في اللغة العربية أن الكلام لا يبتدئ بحرفٍ ساكن، وأن همزة الوصل جِيءَ بها للتوصّل إلى نطق الكلمة التي تبدأ بساكن، وقد اختلف العلماءُ في مسألة الابتداء بالساكن هل هو ممكن أم ممتنع، والأكثر على أنه ممتنع، إلا أننا نجد من العلماء القدامى والمعاصرين من يقول إنه ممكن لكنه متروك، من هؤلاء ابن يعيش النحوي في كتابه (المفصّل)، قال: «واعلم أنّ أصحابنا يقولون إنّ الابتداء بالساكن لا يكون في كلام العرب، وقد أحاله بعضهم ومنع من تصوّره، ولا شبهة في الإمكان، ألا ترى أنّه يجوز الابتداءُ بالساكن إذا كان مدغَماً نحو: ثّاقَلْتُمْ، وتَّخَذْتُمْ، في تَثاقَلْتُمْ، واتَخَذْتُمْ؟».

وقال الكفوي في (الكليّات): «لا خلاف في أن الساكن إذا كان حرفاً مصوتاً لم يُمكن الابتداء به، وإنّما الخلاف في الابتداء بالساكن الصامت، فقد منع إمكان الابتداء به قومٌ للتجربة، وجوّزه آخرون، قال العلّامة الكافيجي: والحق ههُنا هو التفصيل بأن يقال: إن كان السكون للساكن لازماً لذاته فيمتنع كالألف، وإلّا فيمكن، لكنه لم يَقع في كلامهم لسلامة لغتهم من كل لَكَنٍ وبَشاعة». وقوله «للتجربة» أي أنهم حاولوا ولم يستطيعوا.

أما في العصر الحديث فيرى الدكتور كمال بشر في كتابه (دراسات في علم اللغة) إمكانيةَ البدء بالساكن في الفصحى، بل إنه يرفض وجود همزة الوصل ويسمّيها (الصّوَيت)! يقول: «وحقيقة الأمر -في نظرنا- أن هذا (الصوت) الذي سمعوه في المواقع التي نصّوا عليها إنما هو ذلك التحريك أو ما نفضّل أن نسمّيه (الصُّوَيت) الذي يستطيع أن يؤدّي تلك الوظيفة التي أرادها علماء اللغة وهي التوصّل إلى النطق بالساكن». ثم يسرد عدّة أدلة على رأيه هذا فيقول: «أما أدلتنا على أن هذا (الصوت) ليس همزة -في الأقل في الأصل قبل تطوّره إلى همزةٍ أو ما يشبهها في أفواه العامة وأنصاف المثقفين- فكثيرة»، وذكرَ منها: «كون (ألف الوصل) همزة يوقعنا فيما أردنا التخلص منه، فالهمزة -وحدها- صوتٌ ساكن خالٍ من الحركة، فكيف إذن نبدأ بالساكن على حين نريد التخلص منه؟!».

ثم ينتقل إلى الحديث عن هذه المسألة في العاميّات ويُثبت وجودها في بعضها، فيقول: «والواقع أن ظاهرة النطق بالساكن في أول الكلام ليست مقصورة على التراث اللغوي القديم، بل هي موجودة كذلك في اللهجات العربية الحديثة المنتشرة في أرجاء الوطن العربي، ففي لهجة لبنان مثلاً -وبخاصة لهجة الدروز والقطاع الشمالي كله- توجد هذه الظاهرة في مجموعة من السياقات اللغوية..» ثم أوردَ بعض الكلمات التي تبدأ بساكن في لهجاتهم، مثل: «ضْرُوبْ» فعل الأمر من «ضَرَب»، و«نْرُوح» أي نذهب.. وذكر أن هذه الظاهرة مسموعة في لهجة أهل القاهرة، ودلّلَ عليها ببعض النماذج فقال: «من أشهر هذه النماذج وأوضحها في نظرنا حتى الآن صيغ الفعل الماضي من الثلاثي الموزون على فَعِل (بفتح فكسر) في الفصحى، وذلك عندما يتصل هذا الفعل بضمائر الرفع المتصلة، فيقولون: فْهمت».

والابتداء بالساكن لا ترفضه اللغات الأخرى كالإنجليزية والألمانية والفرنسية.. وانظر مثلاً في كلمة sport بالإنجليزية، التي تُنطق السينُ فيها ساكنةً (سْبُورت)، ومثلها brouwn، التي تُنطق (بْرَوان) بباء ساكنة، وقد تبدأ بعضُ الكلمات في الإنجليزية بساكنين كما في structure ويستطيعون البدء بهذه السواكن معتمدين على صوتٍ قويٍّ بعدها يعضدها ويساعدهم على الابتداء بها.

بل إن بعض اللغات يقبل البدء بثلاثة سواكن، وقد سمعت الأستاذ إبراهيم شبّوح (محقق تاريخ ابن خلدون) يقول: «إن ابن خلدون احتار في كتابة بعض الكلمات البربرية (الأمازيغيّة) التي تبدأ بثلاثة سواكن، مثل: جبال (دْرْنْ)»! وقد انتقلت هذه إلى لهجة المغاربة، وانظر مثلاً إلى اسم شيخنا الدكتور عبدالرحمن بو دْرَعْ (درع محرّفة من ذراع)، ينطقونه مبتدئين بتسكين الدال في دْرَع، والابتداء بالساكن دارجٌ في لهجات المغاربة، وقد قرأت لكاتب مغربي يقول: إنه درَس عند أستاذ مصريّ كبير مُقدّمٍ في علوم اللغة الألمانية وآدابها، وكان هذا الأستاذ لا يستطيع أن ينطق كلمة strasse لأنها تُنطق في الألمانية (شْتْرَاسهْ) بالابتداء بساكنين، فيضطر إلى تحريك الأول فينطقها (شَتْراسهْ)، والمغاربة ينطقونها بساكنين وبسهولة لاعتيادهم على ذلك في لهجاتهم.
والذي دعاني إلى البحث في هذه المسألة، أنني وجدتُ أبياتاً في الشعر النبطي (الشعر الشعبي في الجزيرة العربية) تبدأ بساكن، وقد حارَ في أمر هذا الحرف الزائد مَن تنبّه إليه، فمنهم من يجلب قبله همزة فتصبح الزيادة مع هذه الهمزة حرفين فيكسر البيت، كأن يكون أول البيت اسم (سْعُود) فينطقه (إسْعود)، ومنهم من يحرّك الحرف الساكن (مع أنه لا يُنطق بتحريكِ أوّله في اللهجة) ثم يعدّه خزماً، والخزم: زيادةُ حرف -أو أكثر- قبل أول تفعيلة في البيت، وهو ليس خزماً، لأن الخزم يكون متحركاً لا ساكناً كما في النبطي، والذي أراه أن هذا الحرف ساكنٌ ولا يُعَدُّ في الوزن، فيُحسب هو والمتحرك بعده متحركاً واحداً، وأن الابتداء بالساكن تولّد في الكلام العامي عندما تخلّص من قواعد الصَّرف الصارمة، وهو كثير، من ذلك ما جاء في كلامهم على صيغة (تُفَاعِل) الفصيحة، فهم ينطقونها بتسكين أوّلها فيقولون: تْجَادل، تْبَادِل، تْراجِع.. ومنها ما جاء على وزن (فِعال) في الفصحى، فهم يسكّنون أوّلها نحو: حْبَال، جْبَال، طْوَال، رْمَاح، حْصَان.. ولا يتكلّفْ أحدٌ النطقَ بهمزةٍ قبل هذه الكلمات فيقول: إتْجادل، وإجْبَال! فهم لا ينطقونها مهموزة، بل ينطقون الحرف الأول فيها ساكناً معتمدين على المتحرك الذي بعده، فيدعم هذا الصوتُ المتحركُ القويُّ الساكنَ الضعيفَ قبله فيسهل نطقُه، وهذه طريقة النطق بالساكن في أول الكلام في أكثر اللغات.
وأكثر الساكن الذي يُبدأ به في الشعر النبطي الواو، ومثاله قول بدر بن عبدالمحسن (على مجزوء الممتد):
كل ما اقفيت ناداني تعال .. وْكِلّ ما اقبلت عزّم بالرحيل
والواو هنا زائدة على الوزن وتُنطق ساكنة، وتُحسب هي والكاف بعدها متحركاً واحداً، ومثلها قول حميدان الشويعر (على الخبب):
مانع خيالٍ في الدكّة .. وْظَفرٍ في راس المقصورة
وقد يُبتدأ بغير الواو، كما في قول خلف بن هذال (على البسيط، الهجيني الطويل):
نْعَسْفَ الصَّعَبْ ثم يجيك مزينٍ دلّه .. أديب ما يشتكي عرقوب جماله
والنون هنا في (نْعَسْفَ) تُنطق ساكنة، وتُحسب هي والعين بعدها متحركاً واحداً: نْعَسْـ= مُسْـ /o، ولا تحرِّكِ النون، ولا تجلِبْ همزةً قبلها فتنطقها: إنْعَسف! لأنك ستكسر الوزن، بل انطقِ النونَ ساكنةً معتمدةً على العين المفتوحة بعدها.
ومن الأمثلة على الابتداء بالساكن قول محمد الأحمد السديري (على المسحوب):
الله من همٍّ بروحي سهجها .. بْخَافي ضميري في كنين الحشا لاج
والباء في بداية الشطر الثاني ساكنة زائدة، وتُنطق مُدمجةً في الخاء بعدها، وتحسب هي والخاء متحركاً واحداً، ومن ذلك أيضاً قول الشاعر (على المسحوب):
أنا على حسب الطلب ما تِكلّف .. بجِندٍ يفكّون الطلب كل حيني
والباء في بداية الشطر الثاني ساكنة. وقول محمد الرويبخ (على البسيط، الهجيني الطويل):
عْيُون الرجاجيل في حاجز نظرها لسان .. أشرس من أفواهها للي تبا تنقده
والعين في أول البيت ساكنة، ومنه قول عبدالله المسعودي (على الرمل):
وأنت فيك خلاف من عصر العشيّة .. حْوَار ما يرضع وناقة ما تراما
والحاء في بداية الشطر الثاني ساكنة وتُحسب مع الواو بعدها حرفاً واحداً.
وليس كل حرف زائد في أول الشطر من هذا الباب وجائز، فقد تكسر الزيادةُ الوزنَ، كقول سعد بن جدلان (على الطويل، المنكوس):
عَنْقاً مارقٍ نسنوسها سدْوها منقاد .. معا طول خدّتها خراطيمها سبلهْ
والعين في (عنقا) زائدة لكنها متحرّكة، ولا يمكن تسكينها والنون بعدها ساكنة، وليس من كلامهم تسكينها أو تحريك النون بعدها، فهذا كسر، مع أنك لو حذفت العين وحرّكت النون بعدها (إن جاز ذلك) لاستقام الوزن.
فالضابط للابتداء بالحرف الساكن أن تكون الكلمة المُبتَدأ بها تُنطق في لهجة الشاعر ساكنةَ الأول، وهذا ضابطٌ عام لكل كلمة تُستخدم في الشعر النبطي، فلا يُراجع ضبطُ نطقِها في المعجمات وإنما في لهجة قائلها.

د.عبدالله غليس

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.