يرى العلامة بن خلدون ان للدولة أعمار طبيعية حالها كحال الإنسان من المهد إلى اللحد، أي بمعنى آخر من الولادة إلى الزوال، فإن كان الإنسان يمر على عدة مراحل، من مرحلة التكوين ” الجنين ” إلى الرضيع وصولا إلى مرحلة الطفولة و المراهقة ومرحلة الشباب والرشد وصولا إلى الشيخوخة و هي المرحلة الأخيرة في دورة حياة الإنسان فيبدأ بالضعف، وقلة النشاط والحيوية حتى الوفاة. فالدولة أيضاً تمر بذات المراحل رغم اختلاف المراحل مع دورة حياة الانسان إلا أن كلاهما لا يختلفان في الجوهر.
يرى بن خلدون “أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال”.
الجيل الاول يتسم بخلق البداوة وخشونتها ووحشتها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، بمعنى يقوم الجيل الاول بالبناء والعناية.
اما الجيل الثاني، تحوَّل حالهم بالملك والترف من البداوة إلى الحضارة، فيسير الجيل الثاني على خطى الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد لكن تتحول من الاشتراك في المجد إلى الانفراد وحكم الفرد، فتنكسر سورة العصبية ويكون الخضوع والمهانة هي شعار المرحلة رغم بزوغ المنشآت الحضارية والعمرانية.
أمَّا الجيل الثالث، نصاً:
“فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من مَلَكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما يملكون من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالةً على الدولة، ويفقدون «العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة». في الواقع إنهم يحاولون التظاهر بمظهر القوة؛ «يُلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل، وحسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها.»
«فإذا جاء المطالب لهم» — أي إذا قام قائم عليهم — «لم يقاوموا مدافعته»، فيحتاج حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، حتى يتأذن الله بانقراضها.
عند وصول القارىء إلى هذه الفقرة، قد يستدرك ويستذكر اوضاع البلاد وسوء الحال والمراحل التي مررنا بها. كانت الدولة في عهد الثلاثينيات تحديداً في ١٩٣٦، بداية استعداد الدولة للازدهار والاستثمار في الإنسان، بإنشاء مجلس المعارف للإستعداد للمرحلة القادمة، ثم أتت فترة ازدهار الدولة العمراني في الستينيات، وهي بداية الازدهار وبداية اهمال الإنسان، وما بدأت إلا بدأت معها عهد المناكفات السياسية لتعطيل مجلس الامة والانقلاب على الدستور، وهي بداية الجيل الثاني الذي يريد الانفراد.
حقيقة الأمر أننا نعيش في أواخر سنوات الجيل الثاني حسب وصف العلامة بن خلدون، جيل من الانفراد وكسر العصبة وممارسة جميع الادوات لكسر الانسان واذلاله وخضوعه، كارهين لبعض العهود ناقمين لها رغم تمسكهم ببعض عهود الأخرى من الجيل الاول.
فمن الحماقة التفاؤل في ظل أوضاع سيئة وانعدام الأفق السياسي وممارسة الانفراد في القرار وغياب الرؤية.
محاولة الإصلاح لا تلغى حقيقة أننا نعيش في كنف الجيل الثاني وان الممارسات بالتفرد والتهديد تؤكد قاطعة، جازمة، مستخدمةً كل ادوات الجزم واليقين بتأكيد ما رمى إليه العلامة بن خلدون. او لربما نحتاج إلى أوهامنا المعزّية من التفاؤل إذ أردنا المواصلة في حياة معناها الحقيقي أكثر ترويعاً لنا من أن نتكيف معها حسب وصف نيتشة.
قاصداً بالحياة المرعبة، التفرد بالقرار والتهديد و الوعيد، وبداية لمرحلة عهد الاعتقالات، و استمرار لغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، وان كل شيء معلق في البلد، من ركود وانكماش في اقتصاد، وصولاً لغياب الرؤية الإدارية والاقتصادية، في ظل محاولة الدول الخليجية بتنويع اقتصادها وتقليل التعويل على النفط. فما زلنا متأخرين عاجزين عن مواكبة دول الجوار. الأخطر من كل ما ذُكر، انعدام الثقه بكرسي رئاسة مجلس الوزراء بسبب ثقل المهمة والفساد وتحول هذا الكرسي ” لمحرقة سياسية ” فمن يوافق على تولي الكرسي يجب عليه الخضوع للأوامر وتقبل أن وجوده فقط لا يتعدى كونه “دمية لا يملك من القرار شي”.
فإذا كان الحال في الجيل الثاني هكذا، فكيف سيكون الحال مع الجيل الثالث ؟
على الهامش:
تعني العصبية هي الرابطة التي تؤلف بين الجماعة وتجعلهم في وحدة في مواجهة العدوان الخارجي أو الداخلي.
علي الغتر
أضف تعليق