لم تكن في نيتي الخوض في هذا الموضوع لتكرار طرحه ، فالعداء الذي يكنه النظام الإيراني لدول الخليج أزلي ومعهود ، واستعراض القوة أمر اعتدنا عليه ، والتصريحات الفقاعية من حين لآخر باتت روتينية. لكن المعطيات الإقليمية الجديدة رافقتها تحولات خطيرة وتصعيد في موقف النظام الإيراني ، تمثل في نبرة التصريحات والتهديدات تجاه المملكة العربية السعودية وارتفاع سقفها ومضمونها . لقد تجاوز النظام الإيراني كل الخطوط الحمراء ونسف جميع البروتوكولات والأعراف الديبلوماسية عندما توعد المملكة بهجوم عسكري وعمليات نوعية في سابقة خطيرة . وتأتي هذه التهديدات ضمن سياق تصريحات سابقة لمسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى تعكس أطماع النظام التوسعية ونزعته الإستعمارية لاستعادة إرث تاريخي مزعوم ، فقد صرح المستشار العسكري للمرشد الإيراني رحيم صفوي ” أن حدود إيران الحقيقية ليست كما هي عليها الآن ، بل تنتهي عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الجنوب اللبناني “. وأضاف صفوي ” وهذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط ” ، في إشارة صريحة إلى حدود الامبراطوريتين الأخمينية والساسانية الفارسيتين اللتان أسقطهما اليونانيون والعرب .
إن مخطط ملالي إيران ليس وليد الساعة ، فهو يأتي إمتدادا لأطماع وتطلعات شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي في إحياء إمبراطورية فارس الساسانية ، ويكمن الفرق في التكتيك فقط ، فالشاه المخلوع كان يستخدم القوة العسكرية لإرهاب جيرانه وتحقيق طموحاته النازية ، بينما النظام الحالي يعول كثيرا على الورقة المذهبية وشراء الولاءات .
إن استراتيجية النظام الإيراني للهيمنة على منطقة الخليج العربي ترتكز على أربعة دعائم : تحييد النظام الدولي باستخدام ورقة مساومات برنامجه النووي وتأسيس شراكات وتحالفات ، استهداف وإخضاع الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية ، الدفع بعناصر موالية له في مواقع النفوذ وصنع القرار في أورقة الحكومات والمجالس البرلمانية ووسائل الإعلام والأجهزة الأمنية والقطاع الإقتصادي ودعمها مادياً وسياسياً , ونشر شبكات التجسس والخلايا التخريبية لإشاعة الفوضى ساعة الصفر . والشواهد على هذا أكثر من أن تحصى ، فهي على سبيل المثال لا الحصر احتلاله للجزر الإماراتية وإثارة الفتن الطائفية في البحرين وتسليح عناصر إرهابية فيها ، ومحاولته زعزعة الأمن والاستقرار في المملكة (آخرها اشتباه تورطه في حادث تدافع منى والتي أسفرت عن مقتل وجرح المئات من الحجاج) ، وبث وتسليح خلايا تجسسية وتخريبية في الكويت ، وتكرار تهديداته وابتزازه بإغلاق مضيق هرمز الشريان الحيوي لتصدير النفط. وما يضفي على هذا التصريحات خطورة هو تزامنها مع التحولات الجذرية التي شهدتها الساحة الدولية مؤخرا ، يأتي على قمتها تضعضع الموقف الأمريكي والتقارب مع النظام الإيراني ورفع العقوبات عنه تدريجيا والتغاضي عن عبثه في العراق وسوريا واليمن ، مما يوحي ضمنيا حصوله على ضوء أخضر للمضي قدما في مخططاته التوسعية. لقد دشن النظام الانتقال من مرحلة العمل السري والديبلوماسية إلى مرحلة استعراض العضلات والمجاهرة في النوايا ، في وتيرة تدعو للقلق والحذر وأخذ الحيطة.
إن النظام الإيراني لا يعمل من فراغ ولا يقتات على أجواء الأمنيات والأحلام ، بل يتعامل بذكاء مع معطيات الواقع ، فهو يجند كل طاقاته البشرية وإمكانياته المادية ودهائه الدبلوماسي وتفوقه العسكري لبلوغ مرامه في صبر وتؤدة .
إن استمرار مراهنة دول مجلس التعاون على موقف صارم للمجتمع الدولي تجاه أطماع وتهديدات إيران أصبحت غير مجدية ، لا سيما في ظل المتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية ، وبعد نجاح إيران في اختراق وإفشال الحظر والعزل الدولي لها.
إزاء هذا المشهد السياسي البالغ التعقيد وهذه المعضلة الخطيرة فإن خيارات دول مجلس التعاون باتت محصورة في تبني استراتيجية أشد حزما وأكثر جدية ، ترتكز على مجابهة النظام الإيراني كمنظومة واحدة متكاملة الأركان ، وامتلاك المبادرة في تغيير قواعد اللعبة ، واستباق ردود الأفعال ، فالأجندات مكشوفة ، والمواقف جلية ، ولغة الدبلوماسية والمداهنة والتهدئة لا ولن يستوعبها النظام الإيراني .
د/جاسم الفهاد
أضف تعليق