هذا وجه “مي” المشرق بالعشق..
تلك لآلئ عيونها السومرية، وأطياب أطرافها البغدادية..
“مي”.. التي ترخي أهدابها السكرى بخدرٍ.. فتدوخ بها وفيها..
“مي”.. اسم يليق بالشعر.. وبالعشق!
ولا بأس أن يتوسط الحرفين نون ناعمة!
فهل كان من ذكاء شاعر نجد الكبير محمد بن لعبون وهو يتنقل في ربيع العمر والشعر أن يختار اسم “مي” للفتاة “هيلة” التي عشقها في ناحية الزبير من جنوب العراق، مخبئاً اسمها بين ثنايا شعره بطريقة “درسعية”.. هربا من قوانين تمنع التغزل العلني بفتيات المجتمع..؟
كان “مي” هو المعادل الرقمي لاسم “هيلة” إذ تفوح دلّته طيباً كلما توقد الشوق،
وأينما توهّج جمر الغضى.. تهيّج ابن لعبون:
(يامنازل “مي” في ذيك الحزوم
قِبلة الفيحا وشرقٍ عن سنام..)
لكنه لم يستطع كبت هذا السرّ طويلاً فصرخ:
(والله لولا الحيا واللوم .. لأصيح وأقول يا “هيله”)
وسبقه الشاعر العربي “ذو الرمة”.. الذي أنشد لدارها..
(ألا يا اسْلَمي يا دار مَيّ على البِلى)
وها قد أصبحت دار مي.. قفراً، فغابت ابتسامتها دافئة الشذى..
وها أطلالها تأخذ شاعرها المتيم.. كلما طالع جهة هبّت أطيابها وتذوق طعم فراقها.. فأنشد: (يادار مي .. يادار مي)
صارت “مي” أنشودة روحه
وصارت دارها دمارها..
(يادار مي .. يادار مي)
صار يهذي في الطرقات: يادار مي.. يا دار مي..
حتى أصبح “الدارمي” بصمة بابلية ونشيدا أو نشيجا عراقيا.. يعبئ الروح بالجروح:
مستفعلن فعلان مستفعلاتن
مستفعلن فعلان مستفعلاتن
منذ الزمن البعيد، وحتى اليوم.. كانت لتلك الدار تحولات وتجليات..
لكن “مي”.. كبرت.. وأصبحت تشبه زمنها.. تمشي بحزن جميل
وتذرف بدمع رقيق.. وتضحك ضحكة مكسورة، غابت مي وبقيت الدار فاخترع الشاعر العاشق فن “الدارمي” الجميل الحزين:
(من توصل لبغداد.. سلّم على “مي”
“مي” الوطن والناس.. “مي” الهوا والمي)
مستفعلن فعلان مستفعلاتن
مستفعلن فعلان مستفعلاتن
(اقعد واشب النار وابكي على كيفي
وبحجّة الدخان.. اذكر وليفي)
كان الشاعر يترنم بدارمية عابرة:
(ياوطن.. كافي اتنوح.. لاتونّ.. سلامات
كذاب كل من قال: هذا الوطن مات!)
ماكاد ينتهي منها.. حتى سمع صوت جنازير الدبابات فوق الاسفلت.. بينما ترتفع في الهواء رائحة شواء جسد بشري!
أين مي..؟
أين دارها.. ؟
أين بغداد.. والشعراء والصور
ذهب الزمان وضوعه العطر؟
هل ماتت مي.. يادار مي؟!
بقلم/ علي المسعودي
أضف تعليق