وقع الزلزال وأصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بينما لسان حال الكثير من الناس: كيف لترامب الذي تنقصه الهالة التي تحيط بكل رئيس أميركي وصل الى البيت الأبيض، أن يصبح رئيساً؟ بل كيف يمكن من جاهر بعنصريته أن يصل الى البيت الأبيض؟ ويعكس ترامب ذلك التناقض بين المثل الأميركية الليبرالية وبين العنصرية تجاه الأقليات والفئات المهمشة والمسلمين.
فالولايات المتحدة ما زالت تعيش اهتزازاً ناتجاً من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وحربي العراق وأفغانستان والنتائج المدمرة لهما. لقد جاء ترامب رئيساً في دولة تتميز بقدرتها على الإبداع، لكنها دولة تحمل مشروعاً إمبراطورياً سبّب لها مكاسب في مراحل، وصنع لها أخيراً اهتزازاً في مكانتها. اليوم، الولايات المتحدة تعاني، كما تعاني دول أخرى في أوروبا، من مأزق بين الطبقات حول التوزيع والعدالة. إن الرسائل الشعبوية والوعود الكبيرة لاستعادة العظمة وحل المشكلات كما طرحها ترامب، تكون عادةً مقدمة لصراعات أعمق في المجتمع كما في النظام الدولي.
يسعى ترامب الى حماية ما يعتبره مصالح الولايات المتحدة الأساسية، وهو أول رئيس يفوز في الولايات المتحدة رافعاً شعار “أميركا أولاً”. فالانطباع كان دائماً بأن الولايات المتحدة هي قائدة العالم، لهذا يمثل شعار ”أميركا أولاً“ بداية الاعتراف بتراجع الولايات المتحدة عن قيادة العالم. وهذا سيقود بالتالي الى التصارع والتعاون في الوقت نفسه، مع دول ومؤسسات دولية شتى هي الأخرى لديها مصالحها وستحاول تعبئة الفراغ الأميركي.
تؤثر السياسة الأميركية في العالم في صورة مضاعفة، وذلك لشدة ترابطها بالموقف العسكري السياسي كما ولترابط الاقتصاد والدولار الأميركيين بالعالم. فعندما تنسحب الولايات المتحدة من مؤسسة دولية ستدفع المؤسسة الى فقدان الفاعلية، وعندما تفرز رئيساً يؤمن بالعنصرية فستساهم في تشجيع العنصرية في العالم، وعندما تبني سوراً على حدودها مع المكسيك لن تنجح في منع الهجرة، بل ستعزز التقوقع والخوف تماماً كما تفعل إسرائيل حول الضفة الغربية وغزة. الضحية الأولى من ضحايا ترامب على المستوى العالمي، ستكون حقوق الإنسان والحوكمة والحريات، لهذا فالعنف في عهد ترامب سيكون مضاعفاً، ومقاومة آثار سياساته في الشرق الأوسط وفي الداخل الأميركي ستساهم في مزيد من عدم الاستقرار.
وسيزيد من تناقضات الموقف، أن ترامب سيجد نفسه في موقع مشترك مع بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهذا قلما يقع على هذه الدرجة من التوافق والتطابق في السياسة الأميركية. المرة الأخيرة التي وقع فيها هذا التطابق كانت مع الرئيس السابق جورج بوش الابن عام ٢٠٠٠، وقد أدى الى حروب وكوارث. التداخل مع إسرائيل والتناغم في الملفات سيجعلان الأثر الإسرائيلي في هذه الإدارة كبيراً. ترامب لن يدافع عن الفلسطينيين وعن الضعفاء والمهمّشين في العالم العربي، فهو لا يدافع أساساً عن ضعفاء الولايات المتحدة بينما يستخدم نقاط ضعف البيض لحشد تأييدهم. وفي الوقت نفسه، يتشارك ترامب مع الرؤية الإسرائيلية تجاه إيران. سيكون من الصعب أن تنسحب هذه الإدارة من الاتفاق النووي، لكن ستخفف من وتيرة الاندفاعة الأميركية تجاه إيران.
وينسجم الرئيس المنتخب ترامب مع نمو اليمين في فرنسا وأوروبا وبريطانيا، هذا اليمين الجديد غير مهتم بأسس الوسطية التي ميزت الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، وهو بالتالي يمين أكثر صدامية، من دون أن يعني ذلك أنه يمتلك حلولاً لمشكلات أوروبا والولايات المتحدة والعالم.
سيجد رئيس الولايات المتحدة الجديد، أنه يتعاون مع روسيا ومع الأنظمة بغض النظر عن مضمون سياساتها وطبيعة علاقاتها بشعوبها. بالنسبة الى الرئيس الجديد ترامب، العلاقة مع العرب مفيدة لموازنة إيران، وسنجده يركز على مصر والأردن وإسرائيل انطلاقاً من حرصه على الموقف الاستراتيجي الإسرائيلي، بينما يركز على مواجهة ما يعتبره الإرهاب الإسلامي وحشد كل من يقف ضده. ونظراً الى نظرته الثاقبة الى عالم المال والأموال، فسيسعى الى مشاركة الدول العربية الأغنى في المصاريف الأميركية. لن يعتني هذا المنطق بالديموقراطية والحقوق، فكل الحلول مالية وأمنية. نظرة فريق ترامب الى المنطقة العربية تشكو من السلبية وضعف المعرفة وقلة الخبرة، وهذا سينعكس على السياسات المقبلة. ترامب لا يحب القراءة، وهو بالتالي سيعتمد على من يثق بهم من خارج أسرته ومن داخلها، وفي هذا ستكون إشكالية إدارة إمبراطورية تتراجع كإدارة شركة تجارية تتعامل مع الأرباح والخسائر.
من جهة أخرى، سيتعمق شعور السوريين باليأس من النظام الأميركي، ما سيجعلهم لا يعولون على دور أميركي أكثر حزماً. فصراعهم وحربهم مستمران حتى لحظة الوصول الى حل وتسوية تحتوي على قيم للعدالة، وهذه الرسالة هي نفسها التي سيتلقفها الفلسطينيون. ترامب سيدفعهم كما سيدفع غيرهم الى اليأس من السياسة الأميركية، وهذا ينطبق على فئات مختلفة من الشعوب العربية. هكذا سيدفع ترامب بحركة التاريخ الى الدوران في ظل عملية تكثيف للتناقضات وللغضب والخوف في الداخل وفي الخارج. وسيكتشف ترامب كم أن الشرق آيل للمفاجآت في عهده وفي كل العهود. في عهد أوباما، جاءت الموجة الأولى للربيع العربي، فهل تأتي الموجة الثانية الأكثر راديكالية أو غضباً في عهد ترامب؟ وفي عهد ترامب ستستمر القوة التركية والإيرانية على الأغلب في التصاعد، وسيزداد الوضع الفلسطيني احتقاناً وثورية.
من جهة أخرى، فإن ضغوط ترامب على الخليج ستخيف الخليج وتدفعه الى البحث عن خيارات أقل كلفة. فالخليج يريد سياسة أميركية مسؤولة، وهو أيضاً يدفع ثمن السياسات الأميركية الخاطئة (مثلاً سياسة الولايات المتحدة في العراق عام ٢٠٠٣ في عهد الرئيس بوش). فهل تكون مرحلة ترامب مرحلة تغير في العلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج؟ هل يندفع الخليج في جانب منه نحو الصين وفي جانب آخر نحو تركيا من دون أن يعني ذلك إيقاف التعاون الاستراتيجي والاقتصادي مع الدولة الكبرى؟ وهذا يثير السؤال: هل أصبح إشراك قوى أخرى في أمن الإقليم ضرورة؟
ويواجه ترامب من جهة أخرى، معضلة حزبه، فالحزب الجمهوري أصبح تجمعاً من الأفكار والأيديولوجيات المحافظة واليمينية من مدارس ومشارب مختلفة. وهو حزب لا تجمعه المصالح والقضايا الأساسية بقدر ما تجمعه الأيديولوجيا، وهذا يعني أن تناقض الأفكار المحافظة واليمينية مع الواقع سيؤثر سلباً في الحزب الجمهوري. سيلوم كل طرف الآخر عند الوقوع في سياسات خاطئة، وهذا سيعيق مقدرة ترامب على تنفيذ الكثير من وعوده. لهذا، فسعيه الى طرد ملايين اللاتينيين بتهمة الوجود غير الشرعي لن ينجح لأنه لن يحظى بإجماع الجمهوريين، كما أن بناء السور مع المكسيك سيتحول الى كارثة على البلدين. وحدة الجمهوريين مرهونة في جانب كبير منها بمواجهة التيار الذي يقوده الحزب الديموقراطي. لكن خسارة الديموقراطيين المواقع الأساسية في الكونغرس ستنقل الصراع نحو الجمهوريين الذين لن يجدوا عدواً يوحدهم.
وسيكتشف ترامب، كما يكتشف الكثير من الزعماء العرب، أن الملونين والأقليات والمثقفين من البيض والحداثيين الرافضين أطروحاته في الولايات المتحدة، سيزدادون معارضة وحشداً. ستتحول الاحتجاجات الشعبية التي بدأت بمجرد انتخابه، وسيلة لإعادة بناء الحزب الديموقراطي من حزب تحكمت به المصالح الضيقة الفوقية في المراحل الأخيرة الى حزب شعبي يستند الى مجتمع متجدد ومائل الى اليسار في مسائل الأغنياء والفقراء، كما ومائل أيضاً الى تبني قضايا العدالة في النظام الدولي. هذا بطبيعة الحال سيدفع بشخصيات كبرني ساندرز ومن يشبهه الى الواجهة. إعادة بناء الحزب الديموقراطي ستمهد لانتخابات الكونغرس عام ٢٠١٨، ثم والأهم للانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أربع سنوات، بخاصة عندما يفشل ترامب في تحقيق الوعود التي وعد بها سكان المناطق الوسطى الأميركية والبيض من غير المتعلمين. ربما إذا استثمر ترامب في التعليم سيخلق الأساس الذي يسمح للكثير من البيض بالعودة النوعية الى سوق العمل، لكن هذا لن يكفي.
لقد غير انتخاب ترامب الكثير من المعادلات، فهو حدث كبير يعكس ردة فعل على العولمة التي قادتها الولايات المتحدة، ويعكس في الوقت نفسه ردة فعل الغرب تجاه الشرق وتجاه العالم الثالث، وردة فعل البيض تجاه قوة صعود الأقليات والمهمشين، بل وردة فعل الإمبراطورية الأميركية على استهدافها وتراجعها العالمي والطبيعي بعد كل الحروب التي تورطت فيها. أيديولوجية ترامب تعكس الخوف، لهذا سيجد ترامب أنه في حالة تفاوض دائمة مع الدولة الأميركية التي ستسعى الى استيعاب سياساته والتقليل من الفوضى التي قد تطلقها. صعود ترامب سيؤسس لنزاعات جديدة في الداخل والخارج، لكنه سيفتح الباب لفرص جديدة في الشرق الأوسط كما في الداخل الأميركي.
أضف تعليق